منذ نحو 70 عاما، تولى الجنرال جورج باتون قيادة الجيش الثالث الأميركي في فرنسا، وذلك في الاول من أغسطس 1944، وعلى مدى الأيام الثلاثين التالية زحف جيشه مباشرة نحو الحدود الألمانية. ولم يسنح لباتون الوقت في أوج صيف مجده، فبعد خدمة لامعة في شمال إفريقيا وصقلية، نظر إليه زملاؤه الضباط، وأعداؤه الألمان، باعتباره الجنرال الأميركي الأكثر موهبة في الميدان ضمن جيله.

ومع قرب انتهاء حملته الصقلية، صفع باتون المتقلب المزاج جنديين في الجيش الأميركي مريضين في مستشفى ميداني، وهو يهذي بأنهما كانا من المتهربين من الخدمة. وفي الحقيقة كان الجنديان في حالة صحية سيئة، وأحدهما على الأقل كان يعاني من الملاريا.

وتلى هذا الحادث المشين حالة من الغضب الشعبي، ونتيجة لذلك أجبر الجنرال دوايت أيزنهاور على إبعاد باتون لمدة 11 شهرا بالغة الأهمية.

وفي أوائل عام 1944، استخدم جيش باتون في التمويه لخداع الألمان، الاعتقاد بأن "جيش الولايات المتحدة الأول بقيادة باتون" قد يقوم مجددا بعملية هبوط رئيسية أخرى في كاليه. ويبدو أن الألمان رأوا في قيام الأميركيين بإبعاد جنرالهم الأكثر جرأة، أمراً غير مفهوم في اللحظة نفسها التي هم في أمس الحاجة إلى هذه الجرأة.

وبعد ذلك عندما عاد جيش باتون الثالث لنشاطه في الميدان، بعد ستة أسابيع من موعد بدء نزول قوات الحلفاء على شواطئ نورماندي في 6 يونيو 1944، كان عليه أن يلعب دورا ثانويا فقط، وهو حراسة الجبهة الجنوبية لجيوش الجنرال برادلي والمارشال البريطاني برنارد مونتغمري، وتأمين سلامة موانئ الأطلسي.

وباتون اتجه شرقا، رغم أن هذا الطريق كان الأطول إلى الحدود الألمانية. والجيش الثالث انطلق في نوع من حرب خاطفة أميركية، لم يشهد العالم مثلها منذ عمليات الزحف السريعة للجنرال الاتحادي وليام تكيموسي شرمان، عبر جورجيا وكارولينا خلال الحرب الأهلية الأميركية.

وعلى امتداد شهر أغسطس 1944، استعاد باتون حظوته لدى الصحافة. كان فج الحديث كثير الضجيج ويفتقر إلى الكياسة، وكان يقود من مقدمة الجبهة بأسلوب هادر وهو يعتمر خوذة مصقولة ويتسلح بمسدسات مصنوعة من العاج.

وفي الحقيقة، كان أداؤه المثير يخفي عقلا عسكريا تحليليا وشديد الاطلاع. وقد سعى إلى تجنب الإصابات بين جنوده من خلال محاصرة الجيوش الألمانية. وبأسلوب مبتكر، عقد شراكة مع القوات الجوية التكتيكية الأميركية، في سبيل تأمين التغطية لجبهاته، فيما أسرع طابور مدرعاته ليحيط بالتشكيلات الألمانية الثابتة.

وشدد باتون على أنه من الطبيعي أن يكون جنود الجيش الأميركي المندفعون قد حاربوا أفضل من غيرهم، وذلك عندما كان "يزحف" متقدما، خصوصا في أوقات الصيف.

وحينها فقط، لبرهة قصيرة، يمكن للسماء الصافية أن تسهل عملية الدعم الجوي الأميركي الساحق. وفي غضون ثلاثين يوما فقط، أنهى باتون اجتياحه لفرنسا واقترب من ألمانيا.

لكن الجيش الثالث استنزف إمدادات الوقود لديه، وتوقف قرب الحدود في أوائل سبتمبر. ثم أعيد توجيه إمدادات الحلفاء شمالا نحو مناورة "ماركت غاردن" المتهورة للجنرال مونتغمري الحذر في العادة.

وفي غضون ذلك، برهن قطع الإمدادات عن باتون على أنه كارثي. فالقوات الألمانية المتفرقة والتي كانت تلوذ بالفرار، أعادت تجميع نفسها وتعززت مقاومتها مع سوء أحوال الطقس ومع بدء خطوط الإمداد القصيرة تعمل لصالح الدفاع.

وما زال المؤرخون يتجادلون حول معجزة باتون في أغسطس، هل كان بإمكان الجيش الثالث الذي يسابق الوقت أن يقتحم ألمانيا فعلا متقدما بفارق كبير عن خطوط الحلفاء؟ وهل كان بإمكان الحلفاء إمداد الطابور العسكري لباتون المندفع بشكل مناسب، أخذا في الاعتبار المسافة المتزايدة بعدا عن موانئ نورماندي؟ كيف يمكن لقائد أعلى مثل أيزنهاور أن يتعامل مع باتون الذي كان بإمكانه في أي لحظة أن ينفلت ضد أي كلام سياسي منمق غير صحيح؟

لا نملك الإجابات عن كل تلك الأسئلة، ولا ندرك تماما الثمن الكامل الذي دفعته أميركا نتيجة لوضع باتون، الذي لا يحترم الممارسات التقليدية، في المنفى لحوالي سنة بدلا من ممارسة قيادته في إيطاليا أو نورماندي. ما نعرفه فقط هو أنه منذ 70 عاما ظن عبقري أميركي أصيل، أن بإمكانه الفوز بالحرب في أوروبا وكاد أن يفعل ذلك.

 وعندما توقف جيشه الثالث، كذلك توقف جهد الحلفاء. وسيتوفى باتون من إصابات لحقت به جراء حادث سيارة غريب، بعد وقت قصير من استسلام الألمان. وقد أصبح سريعا من طينة الأساطير، لكن يجري تذكره في أغلب الأوقات من خلال أدائه المثير، وليس على عبقريته الأصيلة التي أنقذت الألوف من الأرواح الأميركية.

منذ 70 عاما في شهر أغسطس، أظهر جورج إس. باتون لأميركا كيف أن بإمكان جنود مجندين إجباريا في ديمقراطية، أن ينهضوا من لا شيء لهزيمة مهنيين في القتل لدى نظام استبدادي، مستخدمين الأساليب التي استخدمها هؤلاء ضدهم لصالحهم.