هناك الكثير من القضايا الكبرى تسمى بالقضايا «المسكوت» عنها، ومن يتابع الجدل المحتدم على ساحة النقاش العام الآن حول قضايا مثل تجديد الخطاب الديني ومراجعة بعض كتب التراث ومسألة حجاب المرأة وغيرها، لابد وأن يلحظ أن هناك أزمة ما تعتري حياتنا الثقافية.
هذه الأزمة لا تتعلق بمدى صحة أو خطأ الآراء المطروحة أو الاتفاق والخلاف حولها، ولكن بردود الفعل العنيفة والرافضة حيالها، والتي تصل إلى حد «التجريم» أو «التكفير» أو تقديم البلاغات ضد أصحابها أو بعبارة أدق، ضد كل فكرة أو وجهة نظر تغاير التيار العام السائد أو تصطدم به.
في الأزمنة الماضية كان العالم الإسلامي يُفاخر بأنه رمز «الوسطية»، أي الاعتدال بما يمتلكه من مرونة تلائم بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر في إطار ما يعرف بـ«المقاصد الكلية» لتأويل النصوص وتفسيرها، وكانت مصر في مقدمة الدول المعبرة عن هذه الوسطية ليس فقط على الصعيد الديني.
وإنما على المستوى الثقافي العام والمجتمع ككل أي تحولت الوسطية إلى ثقافة مدنية للجميع، وبفضلها صارت مصر بلد التعددية والتنوع والثراء الثقافي، واحتضنت مختلفي الأديان (مسلمين ومسيحيين ويهود) والجنسيات (يونانيين وأرمن وإيطاليين وفرنسيين وجاليات أخرى كثيرة).
قدمت مصر أيضاً إلى المنطقة والعالم ألمع الأسماء في الأدب والفن والسينما والمسرح والشعر ناهيك عن الأسماء اللامعة الأخرى على مستوى مؤسسة الأزهر. إنها الحقبة الحاضرة في أذهاننا إلى اليوم، والتي استمرت لعقود، ولكن ماذا حدث لهذه «الوسطية» حتى أصبح الواقع الثقافي مأزوماً في الوقت الراهن؟
لقد بدأت تتراجع منذ منتصف السبعينيات لتحل مكانها تدريجياً ثقافات أخرى. في هذا السياق انتشرت أفكار الوهابية والسلفية وفكر جماعة الإخوان المسلمين لتخترق العديد من الهيئات وتنفذ إلى المجتمع لتغير ثقافته وملامحه.
إن هذه التيارات بحكم التعريف تعادي التحديث والتنوير والإبداع وتعتبر قيم الحرية والمواطنة والليبرالية والحقوق المدنية التي هي جوهر الديمقراطية التعددية قيماً دخيلة على الثقافة «الأصيلة» التي لا تعدو كونها ثقافتها هي ذاتها، فكانت «أصوليتها» الجامدة هي الباب الذي تسللت منه «الفتاوى» المتطرفة والغريبة على الثقافة المصرية بوسطيتها المعروفة.
وحلت أفكار التطرف التي توظفها جماعات العنف في تبرير أعمالها الإرهابية، بدءاً من تلك المحلية الصغيرة وصولاً إلى تنظيمات القاعدة وداعش وأنصار بيت المقدس وبوكو حرام وغيرها، محل كل المدارس الفقهية والفكرية الإسلامية المستنيرة.
الأكثر من ذلك أو المفارقة هنا أن الذي استفاد سياسياً من هذا المناخ المغلق كانت جماعة الإخوان التي أعادت تقديم نفسها على أنها ممثلة «الوسطية والاعتدال»، رغم أن تاريخها الفكري والواقعي لم يخل من الجمود والتطرف والعنف.
كانت جماعة سلفية بامتياز قبل أن تضيف إلى فكرها النزعة «الجهادية» أي الشق المسلح مع إنشائها للتنظيم السري، فضلاً عن أن مبرر وجودها استند أساساً إلى قضية محورية واحدة وهي استعادة نظام الخلافة الذي انتهى عصره فعلياً بزوال الخلافة العثمانية.
استمرار المناخ المغلق هو فقط الذي سيغذي عوامل التطرف ولن يمنع جماعات الإسلام السياسي من الانتشار والتغلغل في المجتمع.
لذلك فإن فتح آفاق التفكير الحر سيظل الخيار الأفضل مهما كانت صعوبته في البداية. وربما ما يدعو إلى تأكيد هذا المعنى هو تلك النبرة الإعلامية التي تزايدت في الآونة الخيرة، والتي تدعو ضمنياً لإغلاق الملفات الخلافية حتى لا تستغلها تلك الجماعات والإخوان.
إن الحديث عن إعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة لا يجب أن يقتصر على القول وإنما لابد أن تكون هناك إرادة للفعل، ومن ضمن ذلك اقتحام مثل هذه القضايا الخلافية. الآن تبدو الجهود التي تبذل لدينا مبعثرة وغير مكتملة، لذلك ما إن نبدأ حتى تعاد الدورة من جديد دون الوصول إلى حلول أو مُستقر يحقق نوعاً من التراكم الثقافي.
إن هذه الأمور يجب أن نتطلع لها جميعاً مثلما نتطلع إلى دور أكبر لمؤسسة الأزهر العريقة، من خلال أعمال متكاملة تصدر عنها خصوصاً في مجال الرد على مجمل فتاوى التطرف لتتجمع في كتاب واحد يُحدث أثراً ملموساً.
هذا إلى جانب اجتهاد الباحثين في نفس المجال. إذ لا يكفي أن يكون لدينا دستور ينص على حرية الفكر والإبداع ويدعو إلى الوسطية بمختلف معانيها دون أن يتحول ذلك إلى واقع معاش نمارسه فعلياً.