ليس من الغريب أن تظهر من وقت لآخر دعوة إلى «التجديد» في الخطاب الديني. وينطبق هذا على الإسلام كما ينطبق على غيره من الأديان. فالدين، وإن كانت له مبادئه وأفكاره الثابتة، فإن له أيضا طقوسا وشعائر تتطلب القيام ببعض الأعمال المادية، وتأدية بعض الواجبات الاجتماعية.

ولكن ظروف الحياة متغيرة، والدين قد ينشأ في بلد ثم ينتشر في بلاد أخرى ذات ثقافات ولغات وعادات مختلفة، ومن ثم يجد أصحاب الثقافات المختلفة، بل وقد يجد أصحاب نفس الثقافة ولكن في ظروف مختلفة، أنهم في حاجة إلى التعبير عن نفس المبادئ والأفكار الثابتة التي آمنوا بها، بطريقة مختلفة تلائم الثقافة أو الظروف الجديدة.

تذكرت وأنا أفكر في هذا الأمر قصة عميقة المغزى، وبالغة الطرافة، كتبها الكاتب الفرنسي الشهير (أناتول فرانس)، في أواخر القرن التاسع عشر، واسمها (الحاوي والسيدة العذراء)، حازت شهرة عظيمة، فأعيدت صياغتها أكثر من مرة، وعرضت في صور مختلفة على المسرح، وفي فيلم سينمائي، وفي رقصة للباليه.. الخ

تروي القصة أن حاويا فقيرا، في مدينة فرنسية صغيرة، كان يجوب الشوارع محاولا أن يلفت نظر المارة، وخاصة الأطفال، ببعض الألعاب التي أتقنها ويظهر مهارة فيها، كان يضع قرشا في أعلى عصا طويلة ثم يضع العصا على طرق أنفه، ويستطيع بالمحافظة على توازنه أن يحتفظ بالعصا مستقرة على الأنف دون أن يقع القرش. فيستدر تصفيقاً من المتفرجين، أو كان يلقي ببعض كور ملونة في الهواء ثم يتلقاها بيديه، الواحدة تلو الأخرى، دون أن تقع أي منها على الأرض، أو يفعل مثل هذا مع مجموعة من السكاكين دون أن يصيب نفسه أو أحداً غيره بأذى.. الخ.

كان الرجل يسير في أحد الأيام عندما قابل في طريقه أحد الرهبان فتبادل الاثنان الحديث ولاحظ الراهب أن الحاوي يحمل في قلبه إيمانا صادقا، فعرض عليه أن ينضم إليهم في الدير ويصبح راهبا مثله. رحب الحاوي بالفكرة، وذهب لإحضار متاعه البسيط وقصد الدير وبدأ حياة الرهبان.

اطمأن الرهبان إليه، ولاحظوا جميعا قوة إيمانه وأثنوا عليه، ولكنهم لاحظوا بعد بضعة أسابيع تغيبه عن بعض الصلوات، وعندما تكرر ذلك أرسلوا أحدهم إلى حجرته لمعرفة ما الذي يمكن أن يشغله عن الاشتراك معهم في الصلاة.

ذهب الراهب فوجد باب حجرة الحاوي مغلقا، ولكنه رأى شقا في الباب يمكنه من خلاله أن يشاهد ما يجري في الغرفة، نظر الراهب فرأى ما لم تصدقه عيناه. رأى الحاوي واقفا أمام تمثال السيدة العذراء وكأنه يصلي لها، ولكنه فوجئ برؤيته وهو يقوم في نفس الوقت ببعض الألعاب التي اعتاد القيام بها أمام المارة في الطريق، فهو يقوم بها الآن في مواجهة التمثال وكأنه يعرض مهاراته على السيدة العذراء، كالاحتفاظ بالعصا واقفة على أنفه، وإلقاء الكور الملونة في الهواء ثم التقاطها واللعب بالسكاكين.. كان من الواضح أنه يفعل ذلك الآن من أجل السيدة العذراء دون غيرها. إذ لم يكن هناك شخص آخر في الغرفة؟

اعترت الراهب دهشة عظيمة ثم ذهب لنقل الخبر إلى بقية الرهبان، فلما تأكدوا من روايته، اعتراهم غضب شديد، واعتبروا ما يحدث عملا شائنا للغاية، بل ذهب بعضهم إلى اعتباره من قبيل الكفر الصريح. قرروا إرسال اثنين منهم لكسر الباب ومنع الرجل من الاسترسال في هذا العمل الشائن أمام تمثال العذراء. ولكنهم فوجئوا برؤية منظر لم يكن يمكن أن يخطر لهم على بال؟ إذ قبل أن يوجه أحدهما أي كلمة إلى الحاوي، رأوا تمثال السيدة العذراء يتحرك، وإذ بها تمد يدها فتمسك بطرف ردائها وتقربه من وجه الحاوي الواقف أمامها والمتصبب عرقا، فتمسح بطرف الرداء بعض العرق من وجهه في لمسة حانية.

من الممكن أن نعتبر ما فعله الحاوي في هذه القصة محاولة «للتجديد» في ممارسة التدين. كان الرجل بلا شك، كما يفهم من رواية أناتول فرانس لقصته، مخلصا وصادقا في تدينه، ولكن طريقة «تجديده» لممارسة شعائر الدين لم تعجب زملاءه من الرهبان، فاتهموه بالهرطقة أو الكفر.

مرت بذهني هذه الخواطر بمناسبة ما شهدناه في الأسابيع الأخيرة من ظهور الدعوة من جديد إلى تجديد الفكر أو الخطاب الديني، كما احتدم الخلاف كالعادة بين المؤيدين والرافضين لدعوة التجديد هذه. ولكن لفت نظري في هذه المرة ندرة أو غياب لفظ أو اصطلاح كان شائعا حتى وقت قريب وصف مثل هذا التجديد وهو «الاجتهاد» لقد فهم المسلمون لفظ «الاجتهاد» على مر العصور على أنه إعادة تفسير النصوص الدينية على ضوء الظروف الجديدة، واختلفوا أيضا على مر العصور حول الحدود المسموح بها في الاجتهاد.

وقد حمل لواء الدعوة إلى الاجتهاد رجال عظام في مختلف البلاد الإسلامية، من مصر وتركيا وأفغانستان والهند.. الخ.. وهو لفظ يبدو لي أكثر اعتدالاً (بل وقد أقول أكثر تهذيبا) من لفظ التجديد.

فكلمة الاجتهاد لا توحي من قريب أو بعيد بمعنى التنكر على أي وجه لمبادئ الإسلام وثوابته، إذ لا تشير إلى شيء قديم يراد تجديد، بل تشير فقط إلى جهد مطلوب من المسلم لتصحيح فهمه هو، وسلوكه هو.

كما أن لفظ «الاجتهاد» لا يوحي بأن من يبذل هذا الجهد هو بالضرورة مصيب دائما، وأنه كان يحمد له جهده دائما، بينما قد يوحي لفظ «التجديد» بتأييد هذا الجهد أيا كان، إذ قد يعتبر الجديد أقرب إلى الصحة من القديم لمجرد كونه جديدا.