خمسة وثلاثون عاماً مرت على أول إصدار لصحيفة البيان الغراء، ومازالت كما المعادن النفيسة تزداد قيمتها بمرور الأيام، إلا أن قيمة جريدة البيان لم تأت من مرور الأيام وفقط بل من أثرها في محيطها سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي، حتى باتت علامة فارقة في تاريخ الصحافة الإماراتية.
إن صعوبة العمل الصحافي تتضح عند المواقف التي تتطلب قرارات حاسمة وفورية حين يكون الخيار بين السبق في نشر الخبر، وبين التحقق من مصداقية المادة الصحافية، ولقد انتصرت البيان للمصداقية باعتبار أنها الأطول عمراً والأبقى أثراً. وكما يقال «إنك قد تستطيع خداع بعض الناس بعض الوقت ولكن لا تستطيع خداع كل الناس طوال الوقت»، لذلك فقد كان عنوانها معبراً عن محتواها بل صارت هي ذاتها «عنوان الحقيقة».
ولأن أكثر ما يحدث اللبس والتخبط في العمل الإعلامي بصفة عامة والصحافي على وجه الخصوص هو مدى وضوح ما يسمى بالسياسة الإعلامية للوسيلة لدى العاملين بها متسائلين «من نحن وماذا نريد؟»، ولقد اختلفت في ذلك المذاهب والرأي ما بين إعلام خشبي محنط، يغرد في واد وقضايا الناس في واد آخر، لا ينشر إلا الرأي الواحد والخبر الموجّه أو الملوّن، ولا يرى فيما حوله إلا الإنجازات، ويتجاهل حاجات مجتمعه، ويغض الطرف عن كل ما هو سلبي، وكأننا نعيش في مجتمع ملائكي، وعلى الطرف الآخر هناك مدارس إعلامية لا تبحث إلا عن الإثارة.
إلا أن البيان حدّدت طريقاً لا هو هذا ولا ذاك، طريقاً يمكن اعتبارها مدرسة المسؤولية الاجتماعية في الصحافة، حين تكون المصلحة العليا للوطن هي الهدف والغاية، وحين يتم التعرض لقضايا المجتمع دون إفراط أو تفريط، عندما يتم إلقاء الضوء على جوانب البناء والتنمية لتكون حافزاً على العمل والإبداع والابتكار، وحين يتم تناول جوانب الخلل لا بغرض الإثارة والتهييج أو الإساءة أو التعرض للأشخاص ولكن بحس وطني راق يهدف إلى البناء لا الهدم، وكشف الأخطاء للتصحيح والمراجعة لا للإثارة واللعب على مشاعر الجمهور، أو الرغبة في زيادة التوزيع.
ولقد استطاعت البيان طوال تاريخها الحافل أن تحقق المعادلة الصعبة بين تلبية حاجات قراءها من منطلق المسؤولية الاجتماعية، بعيداً عن الإثارة والتهييج أو السير في طريق الإعلام الشعبوي، وبين إتاحة المجال لأصحاب الرأي من مختلف المدارس الفكرية انطلاقاً من مبدأ أن الوقوع في أسر صحافة النمط الواحد والرأي الواحد قد تجاوزها الزمن وزهد فيها القارئ.
ورغم أن البيان كانت دوماً معنية بالشأن الوطني إلا أنها لم تتجاهل قضايا أمتها العربية من المحيط إلى الخليج، التي باتت ركناً رئيساً في سياستها التحريرية، فكانت مرآة عاكسة للواقع العربي، كما أنها كانت دوماً صوتاً مدافعاً عن قضاياه، حريصة على وحدة الرأي والهدف، بعيدة عن إثارة الخلاف وأسباب الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة.
كما أن للبيان، وهي تنفتح على العالم من شرقه وغربه، أفكاراً وأقلاماً، لم تدر الظهر يوماً لتراث وطنها وهويته وتاريخه، وساهمت بشكل مؤثر في تعميق الهوية العربية في نفوس أبنائه، ولم تكتف بالدفاع عنها بل كانت إحدى وسائل تكريسها من خلال نقل الموروث الثقافي من الخلف إلى السلف والحفاظ عليه، وهي تذود دوماً عن اللغة العربية كمكون أساس من مكوناتها.
ولأن التثقيف من الأدوار المهمة للإعلام فقد كانت البيان ولا تزال منبراً لنشر الثقافة بوعي وإيجابية، وإمداد قرائها بزاد ثقافي يجمع بين المحلي والعالمي، وتزويد القارئ بأحدث وأهم الإصدارات العالمية من الكتب والدوريات وعرضها بطريقة فاعلة ومؤثرة.
وفي ظل التنافس الشديد بين الصحافة الإلكترونية والورقية، والتسارع التكنولوجي في مجال الاتصال، ودخول وسائل التواصل الاجتماعي على خط المنافسة، لم تقف البيان مكتوفة الأيدي بل استطاعت أن تستفيد من تكنولوجيا الاتصال الجديدة، حتى أصبحت التفاعلية نمطاً أصيلاً من أنماطها، ما ساعدها على التسريع من وتيرة الحركة وتلبية حاجة القارئ.
ولم يتوقف دور البيان عند أدوارها المتعلقة بالعمل الصحافي ولكنها فتحت أبوابها للتدريب في المساهمة في تأهيل كوادر صحافية وطنية تملك أدوات العمل الصحافي ومهارة التعامل مع تكنولوجيا الاتصال، كما استطاعت أن تكون منارة ثقافية من خلال إصدارات توثّق تاريخ الإمارات وتحافظ على تراثها، وأدخلت التكنولوجيا وفق أحدث الأساليب المتبعة عالمياً.
إن من يرقب مسيرة البيان يرى فيها صورة جلية لمسيرة الوطن، وتأريخاً صادقاً لما مر به من تطور، لذا صارت مرآة المجتمع، ودرة التاج في بلاط صاحبة الجلالة.