كان يوليو صيف عام 1997 حاراً جداً، ولن أنسى ذلك الهواء الساخن الذي لفح وجهي، عندما نزلت من الحافلة قاطعاً شارع الشيخ زايد باتجاه مبنى جريدة البيان، فوصلت منهكاً ومعفرّاً أتصبب عرقاً. ودخلت باب المبنى برتقالي اللون يومئذ، وهو ذات اللون الذي يحاكي لون الصفحة الأولى للجريدة الاقتصادية حينها، وبفعل هواء التكييف والبرودة الناعمة في باحة الاستقبال انتابني شعور بالاسترخاء أنعشني وجعلني أتماسك قليلاً.

وقبل كل شيء، طلبت كأساً من الماء البارد، وعن مكان أغسل فيه وجهي، وأنفض هذا الغبار الذي تناثر خلف أذني وعلى أطراف رموشي، وغمر ملابسي وحذائي الذي لم يبق من السواد فيه سوى ربّاطه.

أعدت لنفسي بعضاً من أناقتها ولياقتها، ونظرت خلفي من الشباك وتأملت السيارات المسرعة في الشارع المزدوج الذي قطعته، فأدركت أنها مجازفة خرقاء قمت بها، سيّما أن أحدهم لاحظ حالتي وارتباكي وتعاطف معي وأخبرني أن ثمة وسيلة نقل مجانية تدور على مدار الساعة تنقل الركاب من جهة إلى أخرى حماية وتسهيلاً لهم.

وفي أتون هذا الارتباك، كنت أتمنى أن لا تستقبلني لجنة مقابلات التوظيف برئاسة الصديق مدير التحرير آنذاك عبدالحميد أحمد، إذ تأخرت عن الموعد بنحو 45 دقيقة، قضيتها في استعادة تماسكي النفسي والبيولوجي.

ولكنه خاب ظنّي في اللجنة، حيث تم استقبالي والترحاب بي، فاعتذرت لهم عن التأخير بسبب أنني قطعت الشارع مسرعاً إذ ظننته مثل شوارع البلدان التي زرتها، ضيّقة، بطيئة، ليس لها أرصفة أو حواف. فابتسموا وهنأوني بالسلامة، ورأيت التعاطف في عيونهم خصوصاً أنهم يعلمون أنني قادم من العاصمة أبوظبي. وبدأت اللجنة المقابلة بالحديث عن هذا الشارع وباقي مشاريع إمارة دبي وكيف أن تصميمها ليس لحلول آنية وضرورات مؤقته، وإنما لتلبية خدمات بعيدة المدى بقدرة استيعابية كبيرة وطموحة تلبي احتياجات المستقبل في مجتمع مزدهر.

واستغربت من الحديث سيّما وأن الشارع غير مكتمل البناء آنذاك لم تكن أطرافه مكتظة بالمباني والأبراج السكنية والمكتبية والمسطحات الخضراء والمطاعم والأسواق والمؤسسات الحكومية كما هو الآن.

لمست تعاطفاً من قبل اللجنة لمعاناتي لتجشم العناء في الوصول إلى الجريدة التي ما خبرت مكانها من قبل. ولا أخفيكم انني استعذبت تعاطف اللجنة معي، وقلت إن هذا الشعور هو المدخل الناعم لقلوب أعضاء اللجنة، والذي يتيح بأريحية التعريف بكفاءاتي الأكاديمية والمهنية والخبرات العملية في مجال المعلوماتية والتوثيق والتحرير، وبالفعل كان الحديث ودّياً ومهنيّاً.

تحدثت خلالها عما سمعته عن المشاريع الإعلامية المعلوماتية لجريدة البيان، وفي مقدمتها، التجربة الرائدة غير المسبوقة لمشروع «البنك العربي للمعلومات» الذي ذاع صيته، وقواعد البيانات ذات الصلة، وهي تجربة سبقت زمنها آنذاك في عالمنا العربي، بل في العالم إذا ما استثنينا «الذاكرة الأميركية» في مكتبة الكونغرس.

ومشروع التوثيق الإلكتروني في المكتبة البريطانية الوطنية. وأيضا، تحدثنا حول ريادتها كونها الأولى عربيا في بناء ذاكرة الصور بقواعد بيانات بلغت حالياً مئات الألوف من الصور الموثقة والمصورة سهلة البحث والاسترجاع والتحويل والمعالجة.

اصطحبني مدير التحرير بحسّه الساخر المعروف في جولة للتعريف بأقسام الجريدة وخدماتها والتي تميّزت بأحدث الأجهزة والتقنيات التحريرية والطباعية، فتجد الصحافيين والمحررين والمدققين، والمخرجين الفنيين لصفحات الجريدة، وفنيي الطباعة، والباحثين، فبدت الجريدة وكأنها خلية نحل لا تهدأ أو قرية نمل ذات عزيمة وإصرار على نقل المعرفة والخبر والمعلومة الصحيحة المعالجة في موعدها.

وللتحكم بالغزارة المتنامية في هذا الحراك الديناميكي التحريري والإنتاجي المعرفي والطباعي الورقي والإلكتروني وصولا إلى القارئ العاشق، كان واضحاً أن ثمة آليات عمل فاعلة وإجراءات محددة تضمن توافر نقاط لضبط «إيقاع» الخبر وتدقيقه، وبهذا الاهتمام من قبل مدير التحرير وتقديمه لي إلى سكرتير التحرير آنذاك الصديق ظاعن شاهين، أدركت أن ملامح موافقة ضمنية على انضمامي وتشرفي بأن أكون ضمن كوكبة العاملين في البيان.

ومنذ ذلك الحين دخلت رحاب «البيان» وتشرفت بالعمل فيها لمدة خمس سنوات، تعلمت فيها شيئاً رئيسياً واحداً الريادة في العمل، وأن العمل الجاد والجرأة في التحديث لا يزهر إنتاجاً نوعياً في الخبر والمعلومة والرأي فحسب، وإنما يمنح رؤية ثاقبة لمستقبل تنافسي أفضل يصب في المسار الصحيح والبناء التراكمي المثمر لهذا العطاء الإعلامي. وبالفعل، وفي الذكرى 35 على تأسيسها أثبتت البيان أنها لا تساوم على الموضوعية بإغراءات الربحية، وأنها استطاعت تشكيل منظومة عمل إدارية تتمتع بالتطوير والتأقلم مع تحديات الإعلام الجديد.

فقد كانت الأولى عربياً في تحميل كامل محتوى الجريدة على موقعها الإلكتروني، وتميّز موقعها بالخدمات التي تهم القارئ، فضلا عن أن اهتمام الموقع بالبحوث والدراسات واستطلاعات الرأي، بل ان البيان كانت أول من حمّل الصفحات الكاملة للجريدة دون حذف للإعلانات بلا مقابل من المعلن، وهي أولى من أتاحت قواعد بياناتها المعلوماتية لمتصفح الإنترنت دون تعقيدات الاشتراك والبحث المشروط، الأمر الذي جعلها واحدة من أكثر المواقع الإلكترونية العربية انتشاراً على شبكة الإنترنت.

فضلاً عن السرعة في التحول في الأعمال التحريرية الورقية إلى الإلكترونية، فقد قامت بتأهيل جميع المحررين للتعامل مع التطبيقات التحريرية الحديثة. إن هذه الرؤية الاستشرافية التي من الطبيعي أن تبث روح الإبداع والابتكار في الأعمال والخدمات الإعلامية، جعلت من «البيان» أحد الشواهد الرئيسية ليس فقط على رصد التنمية الجارية وانعكاساً صادقاً لمسارات تطور إمارة دبي فحسب، وإنما نموذج واضح على نمط التفكير الشامل والجريء لمستقبل الإمارة الذي لا يعرف الكسل أو التباطؤ أو التأخير، فهي علاقة جدلية وتأثير متبادل بين سياق التطور التنموي للمجتمع والارتقاء المهني الإعلامي الذي يواكب بل ويهيئ القارئ بأن لا حدود للإبداع، وأن الابتكار هو منهجية وليست رفاهية عابرة، وإنما استدامة طموحة تعتنقها الجريدة لتواكب قطار التميّز الذي يبث روحه في المجتمع مؤسسات ودوائر وهيئات وأفراد بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الذي لا يقبل بأنصاف الحلول، وأن رؤيته تقوم على مبدأ أن لأي فكرة فضاء إبداعياً وأفقاً ابتكارياً لا يمكن الوصول إليه إلا بالجرأة في التفكير وتجاوز ما هو تقليدي، عندها يكون التميّز، وهذا ليس بعيداً عن مسيرة «البيان» وإنجازاتها المستدامة.

وبعد نحو خمس سنوات كان الشارع قد امتلأت بالجسور، والخدمات، والمباني والأبراج الشاهقة وتم البدء في إنشاء مترو دبي، وبرج خليفة، اللذان تم إنجازهما بسرعة فائقة فيما بعد، ودبت الحياة في هذا الشريان الحيوي للمدينة، وصدقت المقولة الشهيرة أن الإنسان لا يقطع النهر مرتين، فاللحظة لا تتكرر أبداً، وأقول: لا نقطع شارع الشيخ زايد مرتين متشابهتين، لأنه إذا كان الماء يتغيّر في النهر، فإن التطور دائم وحيوي ومستدام في هذا الشارع الرئيسي الحيوي الذي لا يتوقف عن التطور يوماً بعد يوم ابتداء بخدماته وانتهاء بإعلاناته البراقة الزاهية وهي الضيف الدائم على جنباته.