لم أكن أتوقع أو يخطر ببالي، أن الصراع بين الأسرة والعائلة يأخذ حيزاً من تفكيري واهتمامي إلا حينما رأيت هذين الخطين والطريقين أمامي، فأدركت حينها أن كثيرين من الناس يعملون على إرضاء العائلة على حساب الأسرة، فيما يقف آخرون في صف الأسرة على حساب العائلة، هذا الموضوع جرّني من جديد للعودة إلى كتب علم الاجتماع الأسري والعائلي كي أحاول سبر أغواره والإحاطة بمنحنياته واتجاهاته المختلفة، وهي عودة إلى أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، حينما كنت أدرس في جامعة الإمارات العربية المتحدة في مدينة العين.
ولعل تطور العلاقات العائلية هو أحد إفرازات المرحلة الصناعية في أوروبا، حينما تحولت من المجتمع الزراعي وما يرتبط به من شكل علاقات اقتصادية واجتماعية إلى المجتمع الصناعي وما يحمله هذا الانتقال الاقتصادي الاجتماعي من تحولات جذرية وجوهرية في البنى التحتية والفوقية، بما في ذلك وحدة تكوّن المجتمع، وهي الأسرة والعائلة، ومن ثم بروز المدن بدلاً من الأرياف والقرى.
لقد كانت الأسرة النووية، ولا تزال، عبارة عن الزوج والزوجة وأبناؤهما، وهي الأساس في الوقت الراهن، ولقد أعطت العديد من الأنظمة والقوانين في الدول الأوروبية الحرية للأبناء من الذكور أو الإناث بعد سن الثامنة عشرة في الاختيار المتلق بالعديد من اتجاهات حياتهم اليومية والدراسية والفكرية والسلوكية، ولعل ذلك نتج عنه العديد من المشكلات لدى الشباب في المجتمعات الأوروبية والغربية، ومن سار على نهجهما من المجتمعات العربية، وهو سير انتهج طريق الاتّباع والتقليد الأعمى وأحياناً الاستنساخ.
وحينما يتحيّر الإنسان في اختيار طريقه، ويصل إلى الطريق المسدود، بمعنى أن عليه الاختيار بين طريقين لا ثالث لهما، فهو إما أن يتّجه نحو اليمين أو يتجه نحو اليسار، ولا مجال للعودة إلى الخلف. ولا شك أن مسألة الاختيار تنطوي على حساسية بالغة بالنسبة لشاب في مقتبل العمر أو في مرحلة المراهقة، ذلك أنه يترتّب على اختياره الكثير من التداعيات التي تنعكس إيجاباً أو سلباً، ليس عليه وحده فحسب، إنما على أسرته.
ومن الأصح القول استنتاجاً من التجارب الأوروبية في هذا المجال، وبالرغم من كل التطور الذي يمكن ملاحظته والاعتراف به، إن منظومة الأعراف والتعاملات القائمة في الأسرة الغربية لا تشكّل النموذج الذي يمكنه أن يبني مجتمعات يتواءم فيها التطور الاقتصادي والاجتماعي مع المسار المدني الحضاري، ذلك أن التربية وهيكلها التربوي ومضامينه السلوكية، كلها تشكل سلسلة واحدة لا تنفصل حلقاتها. ولهذا يمكن بوضوح رؤية العديد من مظاهر الانحراف والتفكك بل والجريمة تتغلغل في هذه المجتمعات، ارتباطا بالبعد الاجتماعي التربوي الذي يبدأ من الأسرة وينتهي بالمجتمع، وليس ارتباطاً بالبعد الأمني وأدواته وقوانينه.
وعودة إلى الأسرة كوحدة بناء للمجتمع، فإنه عادة ما تكون الأم أو الأخت الكبرى هي التي تهيمن على الآخرين من أفرادها، وبالتالي فقد يؤدي ذلك إلى انهيار الأسرة الصغيرة وتفكّكها وبداية إلى الانفصال، وتكون الطامة الكبرى في حالات الطلاق حينما يكون لدى الزوجين أولاد تحت سن البلوغ او الرشد. وفضلاً عن الثمن الذي يدفعه الأولاد بعد الانفصال، فإن المرأة المطلقة غالباً ما ما يطالها نصيب الأسد من الثمن المدفوع للانفصال، وبخاصة أن نظرة المجتمع لها سلبية، ويلقى اللوم عليها دون الرجل الذي غالباً ما يجد امرأة أخرى يكمل حياته معها وكأن شيئاً لم يكن، فيما تضطر المطلقة أن تعيش في السجن الرمزي للمطلّقات وتدخل في دائرة مفرّغة من التساؤلات والأسئلة، وتبقى طوال الوقت فريسة للعيون المتشكّة، وتصبح مع الأسف كأي بضاعة مستعملة!
إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أنها لا تستطيع أن تؤكد وجودها وبقوة، وتكمل مسيرة حياتها رافعة الرأس، وتؤدي دورها في الحياة سواء الاجتماعية أو السياسية والاقتصادية، لكنها تكون حذرة من الجنس الآخر أحياناً وربما دائماً.