«كثرة الطباخين تفسد الطبخة»، ولهذا بالضبط لبنان في حالة من الشلل. مضى أكثر من عام على انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، وبسبب عدم التوافق على اختيار خلفٍ له، يخوض السياسيون مساومات لا تنتهي فصولاً.
لا تدار البلدان بهذه الطريقة. هذه ليست ديمقراطية ولا نظاماً يعود بالفائدة على شعبه، إنها سوق نفوذ تتيح للسياسيين التمسك بكراسيهم في ما تحول نادياً للعجزة مكاناً حيث الأفكار الجديدة غير مرحَب بها لأنهم جميعاً مذعورون جداً من اهتزاز السفينة المتهالكة أصلاً، ولعلها معجزة أنها لم تغرق بعد.
علاوةً على ذلك، فيما يدرك معظم السياسيين أن النظام الطائفي الموروث من الفرنسيين هو نظام بائد فاشل في إيصال الرجل الأفضل إلى الرئاسة، فهم ليست لديهم أية إرادة للتغيير خشية فقدان مناصبهم.
لا مجال للمقارنة بين لبنان اليوم والحقبة الذهبية عندما كان الرئيس فؤاد شهاب، الذي كان رجل مبادئ ونزاهة، يحكم البلاد بحزم وثبات. لا تزال ذكراه الجميلة خالدة حتى يومنا هذا، فقد انطبعت صورته في أذهان الناس بأنه الرئيس الذي عمل من أجل تحقيق الانسجام بين الطوائف المختلفة وتوفير الأمن للجميع.
وهو لم يرأس فقط تحول لبنان إلى دولة حديثة تغبطها دول المنطقة، بل أسهم أيضاً في تحسين الاقتصاد، وبناء علاقات وثيقة مع الدول العربية، وتعزيز الأجهزة الأمنية اللبنانية من أجل إبعاد الأيادي الأجنبية التي تضمر الشر لبلاده.
لم يلعب الرئيس شهاب قط اللعبة الطائفية، كان بحق رئيساً للمسلمين والمسيحيين بكل معنى الكلمة. خلافاً لأولئك الذين يتشبثون بمقاعدهم ويرفضون التخلي عنها، امتنع الرئيس شهاب الذي فاز بقلوب اللبنانيين، عن الترشح لولاية ثانية عام 1964. وقد تابع خلفه شارل حلو سياساته الجامعة، إلى أن خسر في الانتخابات لمصلحة سليمان فرنجية عام 1970.
في مطلع السبعينات، كان لبنان جنة على الأرض على مختلف الأصعدة. كان الزوار يتدفقون إليه بأعداد كبيرة من مختلف أنحاء العالم، مسحورين بأجواء الازدهار، وبالثقافة اللبنانية وتطور البلاد. كانت الفنادق والمطاعم تمتلئ بالنزلاء والزبائن. وتوسعت الأعمال. باختصار، كان اللبنانيون موحدين وأباةً وسعداء في بيروت - «باريس الشرق الأوسط» والتي كانت تسودها أجواء من البهجة وروح المبادرة.
عام 1970، كان معدل الإلمام بالقراءة والكتابة في لبنان الأعلى بين البلدان العربية كافة. أما اليوم، فقد تراجع إلى ما دون المعدل في الأردن وليبيا والبحرين والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر. كان سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي عند حدود ليرتين، أما اليوم فيصل إلى 1500 ليرة لبنانية. وكان إجمالي الناتج المحلي يصنَف في المرتبة 73 في العالم؛ لكنه تراجع عام 2014 إلى المرتبة 138.
في تلك الأيام، كان لبنان يتمتع بالاقتصاد الأكثر دينامية في المنطقة، بدفع من الجهاز المصرفي القوي وفوائض ميزان المدفوعات، وانخفاض التضخم، والاستقرار، ما كان يشكل حافزاً للشركات الأجنبية والأعمال والمصارف الدولية للاستثمار في البلاد. عام 1975، كانت نسبة الدين العام ثلاثة في المئة فقط من إجمالي الناتج المحلي، لكن بحلول عام 1990، ارتفع الرقم إلى 99.8 في المئة. والعام الماضي بلغ الدين العام 146 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.
ازدهر لبنان عندما كان الرؤساء المسيحيون، أولئك القادة الذين لم يتورعوا عن حكم البلاد بحزم وصلابة، يتمتعون بسيطرة مطلقة، كما يتضح من الإحصاءات أعلاه. لكن لا تستطيع أية إحصاءات أن تعبر جيداً عن أيام العز تلك بقدر الروايات التي يتناقلها من انطبعت في أذهانهم ذكريات الزمن الجميل في لبنان.
لقد ألقت الحرب الأهلية، التي انطلقت شرارتها مع اندلاع صدامات عنيفة بين مجموعات مارونية وفصائل فلسطينية عام 1975، بالبلاد في حمام من الدماء ودوامة انحدارية لم تتعافَ منها بعد في شكل كامل. كان الخطأ الأكبر الذي ارتكبه فرنجية دعوة القوات السورية إلى دخول البلاد لإحلال الهدوء. سرعان ما تحولت هذه القوات التي أرسلت لإنقاذ لبنان إلى قوات احتلال.
عند التمعن جيداً، نجد حكومة عاجزة ليست أكثر من مجرد واجهة استعراضية تخفي زوبعة من المصالح الطائفية المتنافسة. لا يتحلى أي سياسي بالشجاعة الكافية كي يضع بلاده فوق كل اعتبار. لا ينطق أحد بالحقيقة، إلا خلف الأبواب المغلقة. وجميعهم تقريباً ينحنون خضوعاً أمام اليد التي تهز المهد اللبناني - إنها يد «حزب الله»، عميل إيران الذي يتلقى أوامره مباشرةً من قم.
وقد تواطأ السياسيون اللبنانيون، بدافع الجبن والأنانية، مع «حزب الله» في تسليم وطنهم إلى إيران. كانت إعادة هيكلة النظام السياسي اللبناني بعد توقيع «اتفاق المصالحة الوطنية» المعروف بإتفاق الطائف في أكتوبر 1989، مدفوعةً بنوايا جيدة، لكنها جلبت معها نتائج كارثية غير مقصودة.
فقد جرد رئيس الجمهورية من جزء كبير من صلاحياته، في حين جرى تعزيز سلطة رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب؛ فدخلت البلاد في مأزق. وأصبح رئيس الوزراء خاضعاً للمشترعين الغارقين في خلافاتهم، بدلاً من أن يكون مسؤولاً أمام رئيس الجمهورية، ولهذا تتخبط البلاد في مأزق.
لم يحقق اتفاق الطائف المصالحة الوطنية، إلا على الورق. فقد وضع السلطة في عهدة مجلس النواب الذي تسود اختلافات شديدة في الآراء بين أعضائه. تجر كل كتلة البلاد في اتجاه مختلف، ولا يتمتع رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بأية سلطة فعلية.
لسوء الحظ، الجزء الوحيد الذي طبِق من اتفاق الطائف كان إعادة الهيكلة السياسية. فقد ضرب «حزب الله» عرض الحائط بواحد من أهم البنود الواردة في الاتفاق والذي ينص على نزع سلاح الميليشيات، فالحزب يصف نفسه، زوراً وبهتاناً، بـ«المقاومة اللبنانية». لو كان الأمر صحيحاً، لماذا يدافع إذاً عن نظام الأسد في سوريا ويقاتل إلى جانب الميليشيات الشيعية في العراق والحوثيين في اليمن؟
يبدو مستقبل لبنان، سواءً على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، قاتماً من دون رجل قوي، يتمتع بشخصية كاريزماتية قادرة على اتخاذ القرارات الحازمة الضرورية، شخص يتحلى بالقدرة على حشد اللبنانيين خلفه. يجب أن يحكم لبنان قائد وطني قادر على توحيد جميع المواطنين تحت راية الأرز بدلاً من الاعتبارات الدينية أو رايات الدول الأخرى.
فيما نتقدم في العمر، يحلو لنا أن نتحدث بحنين عن «الزمن الجميل» في حين أن معظمنا يتمتعون الآن بنمط عيش أفضل. على سبيل المثال، عندما أقارن بين ما كانت عليه الإمارات العربية المتحدة خلال الحقبة التي كنت فيها شاباً وما أصبحت عليه الآن، أجد أنه لا مجال أبداً للمقارنة. لكن الأمر مختلف بالنسبة إلى اللبنانيين. كانت الحياة أفضل بكثير في الخمسينيات والستينيات ومطلع السبعينات عندما لم تكن الرئاسة مجرد منصب شرفي.
كان الرؤساء شهاب وحلو وفرنجية يتمتعون بالصلاحيات الكاملة للتعامل مع مختلف الأحداث الطارئة. كان بإمكانهم أن يفكروا ويتحركوا على وجه السرعة، من دون أن يطلبوا الإذن من مجلس النواب كي يتخذوا الإجراءات المناسبة في أي ظرف من الظروف. وقد كنت من المحظوظين الذين عرفوا لبنان في أيام عزه. أعلم جيداً كم كان هذا البلد مدهشاً، وبالتالي، ما يمكن أن يكون عليه من جديد شرط أن تتوافر الإرادة السياسية اللازمة لإصلاح النظام.
بما أنني أدرك أن للبنان قدرات هائلة، ما ينغص ذكرياتي الرائعة الآن هو الانزعاج من الوضع القائم، تماماً كما يشعر الأهل عندما يرون ولدهم الحبيب يسلك الطريق الخطأ. تعجز الكلمات عن وصف «لبناني» الموجود فقط في القصائد والأغاني والأفلام القديمة.
ما دامت البلاد من دون رئيس يقود الدفة، ستظل في حالة من التقلب تتخبط على غير هدى من دون اتجاه محدد. الحل هو وصول رئيس غير متورط في فضائح فساد ومعروف بالتزامه بمبادئه الأخلاقية، لا رئيس مستعد لتغيير مواقفه مقابل ربطة من الجزَر.
الأهم من ذلك هو أنه يجب أن يكون مشهوداً له بوطنيته، أي رئيس يحب بلاده حباً كبيراً لا جدال فيه. يجب اختياره للقيادة انطلاقاً من خصاله الشخصية، وليس فقط لأنه ماروني من عائلة معروفة أو لأنه خدم في الجيش أو لأن والده تسلم من قبل منصباً مرموقاً في الحكومة. يتوق اللبنانيون لوصول قائد ذي سجل حافل بالنجاحات قادر على تلبية رغبات شعبه الملحة في الأمن والاستقرار والازدهار الاقتصادي، قائد يستطيعون الوثوق به.
خلال العقود الأخيرة، لم ينفك السياسيون وكذلك العسكريون الذين وصلوا إلى الرئاسة، يخيبون آمال الشعب اللبناني، لذلك أجد أنه قد حان الوقت لتخطي هؤلاء الأشخاص والبحث عن مرشحين متفوقين في مجالاتهم، سواء كانوا أرباباً في الصناعات أو أقطاباً في الأعمال أو تكنوقراطاً يقيمون في البلاد أو في بلدان الاغتراب.
ربما شهدت بيروت تحولاً براقاً مستعيدة بعضاً من سحرها الأسطوري، لكن في غياب الأسس السياسية الراسخة، والاقتصاد المتين، والقيادة غير المبنية على التوافق، ستبقى البلاد منزلاً من ورق، معرضاً للانهيار عند عصف الريح في منطقة محفوفة بالأعاصير والتهديدات. إنقاذ لبنان أكبر من مجرد رئيس رمز أو رئيس وزراء يستميت من أجل استمالة مجلس النواب إلى جانبه. يحتاج إنقاذ لبنان إلى رجل يتمتع بالقوة، إنما أيضاً بالحكمة ليعرف متى يستعرض عضلاته.