خلال إقامتي في لندن بين عامي 1954 و1969، قدر لي أن أعرف الكاتب السوداني الكبير الطيب صالح، وعلى الرغم من أننا قد عملنا في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، إلا أن ذلك لم يكن في وقت واحد. وأعتقد أن أول ما قرأته من كتاباته، كان قصة قصيرة بعنوان «دومة ود حامد»، ثم قرأت روايته القصيرة التي تعد الآن إحدى روائعه «عرس الزين»، وقد قمت بترجمتها على الفور. وهي حكاية عن قرية سودانية، أعتبرها عملاً ناجحاً تماماً من الأعمال القصصية الرائع.

قدم كاتب ثقيل العيار، هو الروائي كينغسلي إيميس، عرضاً للترجمة الإنجليزية لهذه الرواية، بمزيد من الحماس، وفي وقت لاحق، قام المخرج الكويتي خالد الصديق بتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي.

ثم جاء اليوم الذي أبلغني فيه الطيب صالح، بأنه شرع في كتابة رواية جديدة أكثر طموحاً، وكان يكتبها بخط اليد، وكل بضعة أيام، كنت أتلقى في مكتبي مجموعة من الأوراق، تضم مقطعاً جديداً منها، وسرعان ما اكتملت الرواية التي حملت عنوان «موسم الهجرة إلى الشمال»، واكتملت ترجمتي لها في الوقت نفسه على وجه التقريب.

كنت على تمام الثقة بأن لدي في هذه الرواية عملاً من أعمال القص العربي، سيتمكن من أن يجد مكانه لدى ناشر لندني بارز، وليس في سلسلة روايات مكرسة للكتابات العربية الحديثة.

صدرت رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» في ترجمتها الإنجليزية في عام 1969، وكان ذلك بمثابة يوم جدير باحتفال كبير بالنسبة لي، وللطيب الصلح، على حد سواء. وأتذكر أن الاحتفال أقيم في مكتبي، وحضره عدد قليل من الأصدقاء.

كان العديد من النقاد اللندنيين كرماء في إشادتهم بهذا العمل، وبصفة خاصة، جيل نيفل، التي كتبت عرضاً للكتاب لصحيفة «صنداي تايمز»، اختارت فيه هذا العمل ليكون رواية العام.

تصادف أنني كنت في لندن في ذلك الوقت، وأتذكر أنني مضيت إلى مكتبة هتشارد في بيكاديللي، للسؤال عن الكتاب، متوقعاً أن أجد نسخاً منه تزين إحدى واجهات المكتبة.

ويؤسفني القول إن الأمر كان بحاجة إلى ما هو أكثر من جيل نيفل و«الصنداي تايمز»، لكي يتم النظر إلى رواية الطيب صالح، على أنها أكثر من عمل إبداعي جيد قادم من أفريقيا.

وعندما استفسرت في مكتبة هتشارد عن الكتاب، مستخدماً عنوانه، قوبلت بما يوحي بعدم التعرف إليه. وعندئذ، بادرت إلى ذكر اسم مؤلف الكتاب، فلم أحصل على استجابة تذكر، فبادرت موضحاً: «إنه كاتب عربي»، وكان الرد الذي تلقيته هو: «حسناً يا سيدي، لسوف تجده في الطابق الأرضي».

وفي غضون ذلك، ترجمت رواية الطيب صالح إلى 21 لغة، ومن الواضح أنه لا علاقة لي بأي من هذه الترجمات، وذلك على الرغم من أنه من خلالها، أتيح لي الاطلاع على أسرار عالم الترجمة.

عندما قرر ناشر نرويجي نشر الوراية، طلب إذناً من دار هاينمان باستخدام الترجمة الإنجليزية، وقد حصلت نتيجة لذلك على أتعاب رمزية، وعندما ظهر الكتاب، تلقيت نسخة منه، ذُكر فيها أنه تُرجم عن ترجمتي الإنجليزية.

وفي حالة الترجمة اليابانية للرواية، اتصل بي المترجم الذي كان على معرفة جيدة باللغة العربية، وسألني عما إذا كان لدي اعتراض على استخدام ترجمتي، وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي تقدم فيها مترجم صراحة بمثل هذا الطلب، الذي أسعدني أن ألبيه، فأي مترجم ذلك الذي يعرف أن كتاباً معيناً قد ترجم إلى الإنجليزية، ثم يجد أن لديه ما يحدوه إلى عدم الإشارة إلى تلك الترجمة؟

وفي حقيقة الأمر، أنه في العديد من الحالات، عمل مترجمون لهذه الرواية من ترجمتي إلى الإنجليزية، وليس من الأصل العربي.