ربما يكون تعبير «عمليات انتحارية» هو أصدق وصف للعمليات التي ترتكبها الجماعات الإرهابية المتطرفة، لأن من يقوم بهذه العمليات يقدم على قتل نفسه قبل الآخرين، وقتل النفس في كل القواميس انتحار، والانتحار في الغالب، كما يقول علماء النفس، إنما يحدث بسبب اليأس والفصام الذي يؤدي إلى اضطراب الأفكار وعدم وضوح الرؤية للواقع. والذي يقوم بعملية انتحارية يعلم جيداً أنه سيكون أول الضحايا، ومع ذلك يقدم على العملية.

والعمليات الانتحارية معروفة تاريخياً، وهي ليست مقتصرة على شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، أو دين من الأديان، أو ملة من الملل، وقد مارستها بعض الشعوب في حروبها ضد أعدائها.

وتختلف النظرة إليها ما بين الفعل البطولي، مثل عمليات «الكاميكازي» اليابانية التي ذاع صيتها أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما كان الطيارون اليابانيون يقومون بتفجير طائراتهم في الأساطيل الأميركية، والفعل الجنوني، مثلما تفعل الجماعات الإرهابية التي تهاجم السكان الآمنين، ويفجر المنتسبون إليها أنفسهم في الأسواق والمراكز التجارية ودور العبادة، مثلما تفعل «داعش» و«القاعدة»، وغيرهما من الجماعات التي تدعي أنها إسلامية، والإسلام بريء منها ومن عملياتها.

نقول هذا بمناسبة العمليات الانتحارية التي شهدتها المملكة العربية السعودية خلال الأيام القليلة الماضية، واستهدفت على وجه التحديد مساجد الطائفة الشيعية في المنطقة الشرقية من المملكة، وكان آخرها المحاولة التي تم إحباطها خارج جامع «العنود» بمدينة الدمام خلال صلاة يوم الجمعة الماضي، عندما اشتبه رجال الأمن السعودي في شخص متنكر بزي نسائي، فقام بتفجير نفسه عند بوابة المسجد أثناء توجه رجال الأمن للتثبت منه، ونتج عن الحادث مقتل 4 أشخاص، من بينهم منفذ العملية، وإصابة 4 آخرين.

هذه العملية تأتي بعد أسبوع واحد فقط من عملية أخرى استهدفت مسجداً آخر في بلدة «القديح» التابعة لمحافظة «القطيف» شرق السعودية، وهو التفجير الذي أدى إلى مقتل 21 شخصاً، وإصابة أكثر من 100 بجروح وإصابات مختلفة. وقد تبنت «داعش» العمليتين اللتين يبدو جلياً أن أسبابهما طائفية صرفة، لأنهما استهدفتا الطائفة الشيعية في أرض المملكة.

واضح من المشهد الذي أمامنا، ومن توجيه هذه العمليات نحو طائفة بعينها، أنها تهدف إلى إحداث فتنة طائفية في بلد هو الأكثر وقوفاً في وجه التطرف الديني، والأكثر محاربة للاستحواذ على القرار من قبل أي جماعة أو فئة تتبنى فكراً طائفياً أو مذهبياً متطرفاً يقصي الآخر ويسعى إلى إبادته، ويريد الاستيلاء على السلطة حتى لو سالت دماء الأبرياء أنهاراً، وسقط آلاف الضحايا صرعى، وهُدِّمت دور العبادة على رؤوس مرتاديها، فإلى أي مدى نجح المتطرفون في مسعاهم هذا، وإلى أي مدى فشلوا؟

لكي نحصل على إجابة دقيقة لهذا السؤال، علينا أن نقف على ردود الأفعال التي جاءت بعد حادث عملية جامع «القديح» الأولى، كونها أول عملية انتحارية تستهدف مسجداً للطائفة الشيعية في المملكة العربية السعودية، أثناء أداء المصلين لصلاة الجمعة. الأمر الذي فاجأ المجتمع السعودي بمكوناته وطوائفه كافة، وأثار استنكار الجميع.

ردود الأفعال هذه بدأت من قمة الهرم في المملكة العربية السعودية، حيث وصف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الهجوم بـ «الاعتداء الإرهابي الآثم الذي يتنافى مع القيم الإسلامية والإنسانية»، وتوعد «كل مشارك، أو مخطط، أو داعم، أو متعاون، أو متعاطف مع هذه الجريمة البشعة» قائلاً إنه «سيكون عرضة للمحاسبة والمحاكمة، وسينال عقابه الذي يستحقه». وشدد على أن المملكة العربية السعودية «لن تتوقف جهودها يوماً عن محاربة الفكر الضال، ومواجهة الإرهابيين، والقضاء على بؤرهم». هذا الموقف الحازم والصريح من قمة الهرم السعودي ساندته مواقف كثيرة من داخل المملكة وخارجها.

حيث اعتبر مفتي عام المملكة عبدالعزيز آل الشيخ أن ما حدث هو جريمة خطيرة، وقال: «لعن الله من خطط له، ودبر له، وأعان عليه».

كما أدان التفجيرَ الإرهابيَ وزيرُ العدل السعودي، وأدانه أيضاً الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأدانته الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، وعدّته جريمة بشعة تهدف إلى ضرب وحدة الشعب السعودي، وزعزعة استقراره.

وأدان الهجومَ أيضاً المجلسُ الأعلى للقضاء، وشدد أمينه العام على أن هذا العمل الإجرامي الخبيث لا يمت إلى الإسلام والدين بأي صلة، ولا يمكن تصور أن يرتكبه مسلم عاقل عالم بالحلال والحرام، مدرك لحرمة الدماء وعصمتها. وقد دعا الكُتّابُ لنبذ الطائفية، ومحو بيانات التكفير المتكررة في المحادثات اليومية، والمناهج الدراسية والمنابر.

ردود الفعل الداخلية هذه، وغيرها من ردود الفعل الخارجية التي لم تخرج عن هذا الإطار، تدل على عزلة التيار الطائفي المتشدد بكل أشكاله وأطيافه، كما تؤكد فشل هذا التيار في تحقيق أهدافه المتمثلة في شق الصف وإحداث فتنة طائفية، بدليل عدم انجراف أيٍّ من فئات المجتمع أو السلطة إلى اتخاذ مواقف تشعل النيران التي يريد المتطرفون إشعالها، وهو ما سيؤدي إلى فرض مزيد من العزلة على التيار المتشدد ومحاصرته.

وعندما يحاصَر تيار ما، ويشعر أنه معزول عن المحيط الذي يحاول أن يتسلل إليه، ويسيطر عليه لينشر أفكاره الشاذة فيه، فإن هذا التيار يشعر باليأس والانفصال عن المحيط الذي يرفضه ويلفظه، فيتجه إلى الانتحار والدفع بأتباعه إلى عمليات يائسة، لن تجلب له سوى المزيد من الخزي والعار والفشل والكراهية، ولعنة التاريخ التي ستلاحقه مثلما لاحقت كل القتلة والمجرمين أمثاله.