تسبب تصريح وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر، عقب سقوط مدينة الرمادي عاصمة محافظة الأنبار العراقية في قبضة «داعش»، بأن «الجيش العراقي يفتقر إلى إرادة القتال» في إذكاء غضب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي رفضه بشدة.
ومع تقديرنا لموقف رئيس الوزراء، نرى أن الموضوعية تتطلب وضع العواطف جانباً، فهذا التصريح جدير بأن يؤخذ في نظر الاعتبار وبشكل جدي، لأنه لم يصدر عن شخص قدْر صدوره عن مؤسسة على درجة عالية من المهنية والاحتراف، وشديدة القرب من الواقع العراقي الذي لا تزال تسهم في صناعته.
فالجيش العراقي لم يعوزه السلاح والذخيرة ولم ينقصه عدد المقاتلين في صفوفه، كما أن تحركاته مبنية على معلومات استخبارية وفرتها الدولة وعززتها استخبارات التحالف الدولي، ويمتلك فوق كل ذاك شرعية القضية التي يقاتل في سبيلها وهي الدفاع عن الوطن ضد تهديدات لكيانه، وهو بهذه الجوانب الاستراتيجية يتفوق بشكل كبير على العدو. فمقاتلو «داعش» ..
لا يمتلكون السلاح الذي يضاهي سلاح الجيش، وعددهم لا يزيد على بضعة مئات، وليس لديهم القدرات الاستخبارية التي يمتلكها الجيش، وليس لديهم قضية مشروعة للقتال من أجلها، إلا أن مصدر قوتهم التي أهلتهم للنصر هو الإرادة القوية على خوض القتال رغبة في الموت للتمتع بأوهام صنعتها ثقافات التخلف والشعوذة.
مشكلة الجيش أنه قد تشكل على هيئة الدولة التي تفتقر إلى الهوية، فهو مفكك متنوع الولاءات والإرادات كما هو حال الدولة بمؤسساتها المختلفة. فالعقيدة، إن كان ثمة عقيدة، التي بني عليها هذا الجيش مشتقة من العقيدة التي بنيت عليها الدولة العراقية بعد سقوط النظام السابق، دولة محاصصة وتوافقات تتميز بتفكك مؤسساتها وتعدد ولاءاتها وضعف قدرتها على اتخاذ القرارات والتلكؤ في التنفيذ حين اتخاذها.
والحقيقة أن ما يجري في العراق غير بعيد عما يجري في بلدان عربية أخرى من أحداث تكشف عن مدى هشاشة الدول التي تشكلت عقب سقوط الإمبراطورية العثمانية مطلع القرن العشرين، حيث فشلت هذه الدول في أن تصبح مرجعية لمواطنيها بديلاً عن المرجعيات الأخرى المتوارثة عرقياً أو دينياً أو مذهبياً أو مناطقياً أو قبلياً.
فحالما توافرت الظروف الموضوعية للمواطن للتنفس بحرية عند سقوط الديكتاتوريات في كل من العراق وليبيا، أو توافرت ظروف إقليمية تسمح بقدر من التمرد عليها كما حصل في سوريا، فوجئنا بانفراط العقد في هذه البلدان وخروج مكوناتها عن نطاق السيطرة، وظهور الجانب الخفي وربما الحقيقي لها كمجاميع فسيفسائية غير متجانسة تحكمها الانتماءات والولاءات القومية والدينية والمذهبية والمناطقية والقبلية.
فقد فشلت شعوب هذه البلدان في الارتقاء إلى مستوى الممارسات الديمقراطية التي أتيحت لها لأنها غير مهيأة لذلك فكرياً وسيكولوجياً. فقد سادت ظاهرة التفكك مع بروز حركات وتنظيمات تعوم فوق الدولة.
وتمتلك أجندة ترتبط في الظاهر بأيديولوجيات إسلامية مع قدرات من نوع جديد في رسم السياقات الإقليمية لتدمير بنية الثقافات الوطنية. فقد خسرت شعوب هذه البلدان وحدتها وتحولت إلى مجاميع دخلت في احتراب داخلي وأصبحت قادرة على التواصل والتنسيق مع جهات خارجية بشكل أفضل كثيراً من قدرتها على التنسيق والتواصل مع بعضها البعض.
وهكذا أصبحت الثوابت والمسلمات التي ورثناها حول موقف الأفراد والجماعات من القضايا التي تتعلق بالوطن وعلى رأسها الولاء له في دائرة الشك.
والحقيقة أن هذه الظاهرة الخطيرة والمدمرة للنسيج المجتمعي لم تأت اعتباطاً أو تحدث بين ليلة وضحاها وأنما صنعتها عقود من الدكتاتوريات التي أرهقت شعوب هذه المنطقة وعززت نزعة التراجع في الحس الوطني لديها وجعلتها غير مؤهلة للتفاعل بشكل إيجابي في مرحلة ما بعد الديكتاتوريات التي تحولت إلى فوضى مزقت الأوطان لتراجع الولاءات لها ما أضفى بشكل غير مباشر، لدى البعض، نوعاً من الشرعية على حقبة الديكتاتوريات.
دخلت منطقة الشرق الأوسط مرحلة عدم استقرار من الصعب التنبؤ بنهايتها ومن الصعب كذلك التنبؤ بمساراتها، إلا أن ما يمكن التكهن به هو أن العديد من الثوابت والمسلمات التي نشأت مع نشأة دولها الحديثة في طريقها إلى الانهيار ليس بفعل خارجي قدر ما هو بسبب عدم صلادة هذه الثوابت وضعف بنيانها، فالصراعات الدائرة تقود لا محالة إلى تقويض الذاكرة التاريخية لدى هذه الشعوب، فنحن في خضم تغيير كبير لا يحدث تماماً بإرادة شعوبها.
المؤشرات على ذلك عدة أبرزها حالة الفوضى التي تسود في كل من العراق وليبيا وسوريا واليمن حيث تدور صراعات مسلحة لا يمكن استبعاد صفة العبثية عنها..
ولا يختلف اثنان في أنها ألحقت بهذه البلدان من الأضرار ما لم يحلم ألد أعدائها إلحاقها بها. هذه الصراعات في جوهرها صراعات فكرية ثقافية ذات بعد تاريخي تختلط فيها أطماع الحاضر المتجسدة في إرادات دول إقليمية عدة تزيدها اشتعالاً، ليتمخض عنها في نهاية المطاف نظام إقليمي جديد تلغى في ضوئه بعض الثوابت التي حكمت استقرار المرحلة السابقة.
إن سمات النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدول المنطقة ومستوى الصلات بينها وطبيعة العلاقات التي تقيمها هذه الدول مع مناطق العالم الأخرى هي ما يعين بنية النظام الإقليمي للمنطقة. هذه البنية قد بدأت بالترنح والاهتزاز تحت وطأة ما يحدث فيها من أحداث جسيمة مع تراجع نسبي في دور القوى العظمى، التي اعتادت تاريخياً رسم معالمها البنيانية لصالح دور للدول الإقليمية الأكثر استقراراً والأكثر قوة والأكثر شهية لتوسيع مساحات نفوذها.