المجالس الرمضانية لا شك في أنها من المظاهر الاحتفالية المجتمعية في كل مجتمعات دول الخليج العربي، وهي ظاهرة لها جذور تاريخية تعبر عن الخصائص الاجتماعية للمجتمعات القبلية، حيث درج الأفراد والجماعات من أبناء العشائر على التجمع للتداول في كافة شؤون حياتهم.. كما أن الناس اعتادوا منذ وقت مضى، على جعل رمضان أفضل مناسبة لحسم الخلافات والمشاكل التي كانت تنشب بين القبائل، بسبب الصراعات التي كانت تحدث في تلك الفترة من الزمن.

كالخلاف حول مصادر المياه وأماكن الصيد والرعي إلى آخره من القضايا والأمور الاجتماعية.. ثم بعد ذلك أدى تدفق النفط في دول الخليج إلى إحداث تغيرات هيكلية شملت كافة جوانب الحياة، وأدت بدورها إلى تلاشي ظاهرة البداوة في شكلها العام، مما أدى بالضرورة إلى اختفاء كثير من العادات والتقاليد والأعراف المرتبطة بخصائص النظام القبلي.

لم تندثر ظاهرة المجالس الشعبية، ولكن تغيرت مظاهرها واكتسبت نسقاً حضارياً، كما أن طبيعة الموضوعات والمشكلات التي يجري التداول بشأنها، قد طرأ عليها تغيير كبير.. فما عادت قضايا مصادر الدخل، مثل الصيد ومواسم صيد اللؤلؤ ومصادر المياه تلقى أي اهتمام، لأن كل دول الخليج تجاوزت هذه الحالة، بل أصبحت وقائع تاريخية.

والمتتبع لابد أن يدرك أن تعدد المجالس الشعبية في هذه الأيام كان لافتا للنظر.. لأن المجالس الشعبية نشأت واستمرت كنشاط ذكوري، إلا أننا شهدنا عدة مجالس نسائية انعقدت في السنوات الماضية الأخيرة، تم فيها طرح قضايا جوهرية تهم المرأة والأسرة والطفل، وظواهر أخرى كالبطالة بين الخريجات، أو تفشي العنوسة. والطلاق، وغيرها.

ومع أهمية القضايا التي شغلت الكثيرين وتداولتها المجالس الرمضانية إلا أن القضايا السياسية والأحداث التي خلفتها «رياح الخريف العربي» مثل: الأزمة السورية، وأزمة اليمن وليبيا، والإرهاب، والأحداث التي جرت على الساحة المصرية بعد « ثورة يونيو» شغلت مجالس الرجال والسيدات في المجالس الرمضانية من العام المنصرم.

إن المجالس الرمضانية تحولت إلى برلمانات شعبية مفتوحة، دارت فيها حوارات هادئة وجادة في المسائل التي تهم الغالبية، كغلاء الأسعار، وقضايا الأحداث، وظواهر الطلاق، وتخلف الأولاد عن البنات في نتائج الشهادة الثانوية، وتعدد الحوادث المرورية بسبب قيادة المراهقين والتي غالباً ما تنتهي بالوفاة، ومدى خطورة استخدام الأبناء لشبكات التواصل الاجتماعي بدون رقابة صارمة من قبل الأسرة.. كلها أمور وقضايا اجتماعية متداخلة تداولتها المجالس الرمضانية سواء كانت النسائية أوالرجالية خلال الأعوام الثلاثة الماضية.

المجالس الرمضانية برزت منذ عقود، كشكل من أشكال التواصل والتقارب الاجتماعي بين أفراد أو جماعات ذات أصول قبلية أو عشائرية واحدة، تجمع بينهم روابط ومصالح مشتركة، بل وهموم ومشاكل يستفاد من المجالس في طرحها لإيجاد حلول لها.. وقيمة هذه المجالس الشعبية أنها تسلط الأضواء على القضايا التي تشغل بال أبناء الوطن، إلا أن مجالس المدن والمناطق الحضرية صارت تضم أفراداً من الطيف الاجتماعي، بل في كثير منها تتاح فرص لحضور أغراب ووافدين، من الأصدقاء والجيران وزملاء العمل.

حيث يتم تناول موضوعات محلية وإقليمية أو دولية.. ورغم أننا في بداية الأسبوع الثاني من الشهر الفضيل، إلا أن المجالس الرمضانية، تميزت بزيادة أعدادها وتنوع موضوعاتها، بما يشير إلى أن المجتمع الإماراتي صار أكثر انفتاحاً على مجريات الأحداث.

وفي اعتقادي أن مجتمعنا استطاع عبر التجارب والخبرات الاجتماعية المتراكمة، أن يؤسس بل ويطور تجربة المجالس الرمضانية، فأصبحت صيغة مبتكرة لمجالس شورى تستلهم مرجعيتها من الموروث الثقافي والحضاري المستمد من التراث والقيم الإسلامية السمحة، وهي تجربة نحن جميعاً مطالبون بتمكينها في أذهان وعقول أبنائنا، لارتباطها بالتراث العربي.. كما أنها تجربة مجتمعية تحولت إلى برلمانات شعبية يطرح فيها العديد من القضايا التي تهم الناس.. كل الناس.

وحتى نبقي على هذه التجارب المجتمعية الأصيلة، حبذا لو تتاح الفرصة للشباب ومن مختلف الأعمار لحضور المجالس الرمضانية، وذلك لنبقي على التواصل بين الأجيال، ولنحافظ على إقامتها حتى في الأعياد الدينية والمناسبات الوطنية.. والارتقاء بها لتصبح نموذجاً يتفرد به مجتمع الإمارات، مع تطوير فكرة المجالس.