إنّ الصراعات الداخلية الدموية الجارية الآن في أكثر من بلد عربي، وبروز ظاهرة «داعش» وأعمالها الإجرامية التقسيمية للأوطان وللشعوب، لم تصل بعدُ كلّها بالعرب إلى قاع المنحدر، فما زال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم. لكن وجود هذه المخاطر فعلاً، وما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة باسم الدين والطائفة أو «الهُويّات الإثنية» يجب أن يكون، هو ذاته، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب في الفكر والممارسة، في الحكم وفي المعارضة.
فقد شهدنا في الفترة الماضية تفسيراتٍ مختلفة للتراجع الحاصل في عموم المنطقة العربية، وللهواجس التي تشغل الآن بالَ كلّ إنسانٍ عربي، لكن قلّة من هذه التفسيرات تضع الإصبع على الجرح العربيِّ الأكبر. فأساس المشكلة هو أصلاً بالمجتمعات العربية نفسها، وبكلِّ من فيها، وليس فقط بحكّامها أو بما هو قائم من مشروعات ومؤامرات أجنبية.
إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين والفقه المذهبي ولمسألة الهُويّة وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو المناخ المناسب لأيّ صراع طائفي أو مذهبي أو إثني يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتنّوع إلى عنفٍ دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة والفهم السليم للهُويّة الثقافية العربية، ويحقّق غايات الطامحين للسيطرة على العرب وعلى أرضهم ومقدّراتهم!
وكم هو ساذجٌ من يعتقد أنّ القوى الدولية الكبرى حريصةٌ الآن على مصالح وحقوق شعوب المنطقة، بعد أن استعمر هذه المنطقة عددٌ من هذه القوى الكبرى ولعقودٍ طويلة، واستعمارها هذا كان هو المسؤول الأول عن تخلّفها وعن أنظمتها وعن تقسيمها، ثم عن زرع إسرائيل في قلبها، وعن احتلال فلسطين وتشريد شعبها وعن استنزاف الدول المجاورة لها في حروبٍ متواصلة. وقد كان بعض هذه الدول الكبرى مساهماً في تأسيس النواة الأولى لجماعات التطرّف والإرهاب بالعالم الإسلامي، ثمّ في تسهيل وجود هذه الجماعات وانتشارها بدول المشرق العربي.
وها هي الآن، هذه الدول الكبرى، تتحدّث عن أمن وحرّية ومصالح الشعوب العربية بينما ما يزال مرفوضاً لديها حدوث أي انتفاضة فلسطينية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، فكيف بمقاومته عسكرياً، في حين شجّعت هذه الدول بعض شعوب المنطقة على استخدام العنف المسلّح من أجل تغيير حكوماتها!
جماعاتٌ كثيرة تمارس أسلوب العنف المسلّح تحت شعاراتٍ دينية إسلامية، وهي تنشط الآن في عدّة دول بالمنطقة والعالم، بينما هي تخدم في أساليبها وفي أفكارها المشروع الإسرائيلي الهادف لتقسيم المجتمعات العربية وهدم وحدة الأوطان والشعوب معاً.
إنّ اتساع دائرة العنف الدموي باسم الإسلام أصبح ظاهرةً خطرة على صورة الإسلام نفسه، وعلى المسلمين وكافّة المجتمعات التي يعيشون فيها. وهذا أمرٌ يضع علماء الدين أولاً أمام مسؤولية لا يمكن الهروب منها، فهم إمّا فاشلون عاجزون عن ترشيد السبيل الديني في هذه المجتمعات، أو أنّهم مشجّعون لمثل هذه الأساليب. وفي الحالتين، المصيبة كبرى.
كذلك هي مشكلة غياب المرجعيات الفكرية الدينية التي يُجمِع الناس عليها، وتحوُّل الأسماء الدينية إلى تجارة رابحة يمارسها البعض زوراً وبهتاناً.
لقد أصبح العنف باسم الدين ظاهرة بلا ضوابط، وهذا نراه في مجتمعاتٍ شهدت حراكاً لتغيير حكوماتها وأنظمتها، بينما تسير أمور هذه المجتمعات وأوطانها من سيّءٍ إلى أسوأ. فالتغيير القائم على العنف المسلّح والقتل العشوائي للناس يؤدّي حتماً إلى تفكّك المجتمع، وإلى صراعاتٍ أهلية دموية، وإلى مبرّرات لتدخّلٍ إقليمي ودولي أوسع.
وينطبق الآن على حال الأوطان العربية والإسلامية وصف مرض «ازدواجية الشخصية». ففي معظم هذه البلدان تزداد على المستوى الفردي ظاهرة «التديّن» واهتمام الناس بكيفية تفاصيل «العبادات الدينية» وفق اجتهادات فقهية محددة، لكن مع ابتعادٍ كبير لهؤلاء الأفراد ولهذه المجتمعات عن مبادئ الدين وقيَمه وفروضه الاجتماعية.
إنّ المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً، بحكم دور لغتهم في نشر الدعوة الإسلامية، وبسبب احتضان أرضهم للمقدّسات الدينية، ولكونها أيضاً مهبط الرسل والرسالات، مدعوون إلى مراجعة هذا الانفصام الحاصل في شخصية مجتمعاتهم، وإلى التساؤل عن مدى تطبيق الغايات النبيلة المنصوص عليها في كلّ الكتب السماوية من قيم ومبادئ.
فأين الالتزام بقول الله تعالى: (ولقد كرَّمنا بني آدم) بغضِّ النّظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم وطوائفهم؟ أين القيم الدينية الشاملة لمسائل العدالة والمساواة والشورى وكرامة الإنسان في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية؟ وأين الوحدة الوطنية في هذه المجتمعات، وأينَها بين كلّ المؤمنين بالله، وأينَها بين الطوائف والمذاهب المختلفة؟ أين التكافل الاجتماعي ومكافحة العوز والفقر؟ وأين دور الاجتهاد والعلم والعلماء ومرجعية العقل في مواجهة الجهل وظواهر الجاهلية المتجدّدة حالياً في الأفكار والممارسات؟ أين رفض التعصّب والتمييز؟ أين المسلمون من جوهر إسلامهم، وأين العرب من كونهم «خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس» بعدما حملت رسالةً تدعو إلى الإيمان بالله الواحد وبكتبه ورسله، لا تفرّق بينهم، وتؤكّد وحدة الإنسانية وقيم العدل والمساواة بين البشر؟!
مشكلة العالم الإسلامي الآن أنه لا يتوازن مع تراثه الحضاري الإسلامي الذي يقوم على الحوار مع الرأي الآخر وعلى رفض الإكراه في الدين.