على مدى أكثر من نصف قرن أصدرت الأمم المتحدة والمنظمات العالمية والدولية على مختلف توجهاتها وتخصصاتها العشرات – إن لم يكن المئات – من القرارات التي تحمل إدانات واسعة للممارسات الإسرائيلية وتحدد مطالب صريحة للكيان الصهيوني لمنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة وتهيئة الأجواء لإحلال السلام الشامل والعادل في الشرق الأوسط، إلا أن إسرائيل ضربت بعرض الحائط كل هذه القرارات والمواقف الدولية برغم أنها كانت تكفل لها العيش في سلام داخل حدود آمنة بضمانات دولية وإقليمية صريحة، وفضلت حكومات إسرائيل المتعاقبة تبني سياسات عدوانية صريحة تجاه الأمة العربية حتى عندما انتهجت مصر ومن بعدها الأردن سياسة السلام مع الطرف الإسرائيلي وأيضاً حتى بعدما أطلقت قمة بيروت المبادرة العربية الشهيرة لتسوية الأوضاع في المنطقة بوضع حد للصراع المسلح وفتح الأبواب أمام السلام الدائم، ولكن إسرائيل كالعادة كان لها رأي مغاير.

ولم تختلف السياسات الإسرائيلية حتى في وقت الأزمات مع أقرب حلفائها الولايات المتحدة وآخرها أزمة خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو أمام الكونجرس في مارس الماضي متحدياً نفوذ ومكانة رئيس القوة العظمى الأولى وربما الوحيدة في العالم، مستنداً في ذلك إلى قوة اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة والذي لايزال قادراً على إحداث تحولات سياسية حقيقية على قمة هرم السلطة الأميركية عند اللزوم. وكذلك للتأكد من أن التحالف الأميركي – الإسرائيلي لاتزال ضروراته قائمة بقوة ولا يوجد ما يهدده أو يستدعي انفصامه، ومن ثم فإن أي موقف أميركي ناقد أو مغاير للتوجهات الإسرائيلية لن يصل في نهاية المطاف إلى ما يهدد مصالح ووجود إسرائيل، وهو ما تدركه جيداً القيادات الصهيونية وتتصرف على أساسه ولم تكن واقعة نتانياهو استثناءً لهذه القاعدة أو لمواجهات مماثلة.

العنجهية ذاتها هي التي تتعامل بها إسرائيل مع المجتمع الدولي، وحقيقة الأمر أنها في تلك الممارسات تستند إلى قوتها العسكرية وتفوقها على الدول العربية مجتمعة مستفيدة في ذلك من الخلل الاستراتيجي في المنطقة، ويمكنها ذلك من مواجهة العالم مهما كانت ضغوطه أو محاولاته لإقامة العدالة في المنطقة، وليس خافياً أن الدولة الفلسطينية المستقلة تحظى باعتراف عالمي كاسح حتى في كثير من الدول الأوروبية، إلا أن هذا الاعتراف لم يترجم إلى واقع عملي.

ولا شك في أن تبدل السلوك الصهيوني يحتاج إلى تغييرات إقليمية ودولية ثورية تجرد إسرائيل من عوامل قوتها وعدوانيتها، وهو ما حدث تحديداً في حالة سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا مطلع التسعينات من القرن الماضي حيث بات حصول الأغلبية الإفريقية على حقوقها المشروعة في هذا البلد ممكناً فقط مع تغير الظروف الإقليمية والدولية التي فرضت واقعاً جديداً لم يكن من الممكن استمرار نظام الفصل العنصري معه وجعلت الاستقلال أمراً ممكناً، هذا الواقع لم يتهيأ بعد لإحداث التغير المطلوب في السياسات الصهيونية حتى مع ظهور حملات مقاطعة دولية متزايدة تجاه إسرائيل.

معظم تلك الحملات ينطلق من جمعيات ومنظمات أهلية ومدنية أو لنقل أنها تنطلق من الضمير الشعبي العالمي الذي يؤثر معنوياً أكثر مما يؤثر سياسياً، والشيء نفسه يمكن قوله عن بعض المنظمات أو الهيئات الدولية التي قد تتبنى بعض المواقف المناهضة لإسرائيل دون تغييرات كبيرة على أرض الواقع مثل قرار بعض الدول بعدم استيراد السلع الإسرائيلية المنتجة في المستوطنات بالأراضي المحتلة، أو على غرار ما حدث مؤخراً في الجمعية العمومية للاتحاد الدولي لكرة القدم « الفيفا » حيث كان المشهد فلسطينياً بامتياز.

بحسب تقديرات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية فإن السلطة الفلسطينية تتجه لخوض معركة دبلوماسية ضد إسرائيل، بهدف إضعاف موقعها في المحافل الدولية وأن هذا الجهد لن يقتصر على الأمم المتحدة فقط،، مشيرة إلى أن ما حدث في (الفيفا) يعكس توجهًا لاتخاذ خطوات مشابهة في عشرات الاتحادات والمنظمات الأخرى وبررت ذلك بعدم إيمان السلطة الفلسطينية بالمفاوضات مع إسرائيل في ظل حكومة نتانياهو الجديدة وقناعتها بأنه يستنفد الوقت، دون إحراز تقدم حقيقي في العملية السياسية حتى نهاية ولاية الرئيس أوباما، ولذلك تسعى السلطة الفلسطينية إلى انتهاج سياسة مواجهة غير عنيفة مع إسرائيل مع محاولة التأثير على مكانتها الدولية، ولن تقتصر جهودها على الأمم المتحدة بل ستمتد إلى كافة المؤسسات الدولية.

وليس في هذه التوجهات أي عيب أو سلبية تذكر بل ينبغي الاستمرار فيها وبمنتهى القوة وبأعلى درجات التركيز والاستمرارية وفي كل المواقع العالمية التي يمكن الوصول إليها، ولكن ينبغي التعامل معها باعتبارها عناصر مساعدة لعوامل أخرى إقليمية ودولية يجب توافرها وأنها مجرد خطوة على طريق طويل يجب أن تتبعها خطوات أخرى بدونها لن تكتمل العوامل والظروف الضرورية الكفيلة بحمل الكيان الصهيوني على تغيير سياساته العدوانية. وهي عوامل تحتاج إلى صبر ومثابرة خاصة في مواجهة طرف لا يعرف إلا لغة القوة واعتاد على انتهاك كل قواعد الشرعية الدولية وأسس القانون الدولي وبالتالي لن يهتز كثيراً بصحوة الضمير الشعبي العالمي حتى وإن أزعجته قليلا.