أي ذهول ذاك الذي انتابني حين عرفت أن آخر شهداء الواجب الإماراتيين سيف يوسف بالهول الفلاسي، رحمه الله، كان يتمنى ويسعى للشهادة في سبيل الله، وقد حدَّث أحد زملائه في القوات المسلحة عن ذلك قبل نحو خمسة عشر عاماً، وأنه كان يحثهم على الشهادة منذ ذلك الحين، فها هو ينالها بعدما صدق ما عاهد الله عليه.

حدثني بعض زملاء الشهيد، رحمه الله، ممن عملوا معه في القوات المسلحة بما جعلني أتمنى لو أني تعرفت على هذا الابن البار بوطنه، وتمنيت مصاحبته وملازمته في حياته، فوالله سمعت منهم ما أجبرني على الكتابة والبوح بما سمعت وإن كان ذلك في جلسة عابرة تضمنت لمحة من وقفات الشهيد، رحمه الله، ليست كفيلة بأن توفيه حقه.

سمعت مواقف سأعلمها أبنائي إن شاء الله، سمعت سيرة عطرة تستحق أن تُدرس في مناهجنا، وأعلم أني لو اقتربت أكثر وبحثت في سيرة الشهيد فسأجد المزيد مما يكرس المبادئ والمواقف العظيمة لهذا الشاب الذي رهن عمره وشبابه رفعةً لراية دينه ثم وطنه.

كان شهيدنا، رحمه الله، عسكرياً من الطراز الرفيع، متفوق دائماً في مهامه وتدريباته العسكرية إلى أبعد الحدود، كان رجل المهمات الصعبة الذي يبادر بنفسه بتحمل المسؤولية، كان دائماً يسبق الأوامر ويطلب أن يكون في المقدمة مهما بلغت خطورة الموقف، كان ذاك العسكري القدوة الذي يكنّ لعقيدته ووطنه ولمؤسسته العسكرية ولاء منقطع النظير، فلم تكن مشاركته في عمليات إعادة الأمل في اليمن الشقيق هي الأولى، فقد شارك في العديد من مهام قواتنا المسلحة الإنسانية والداعمة للأشقاء، كتلك التي كانت في البحرين وأفغانستان.

أما مشاركته ضمن المهام الإنسانية التي أدتها قواتنا المسلحة في كوسوفو فقصة تزخر بالنبل والرجولة والإنسانية، فقد كان منتسباً آنذاك إلى دورة عسكرية امتدت لنحو شهر ونصف، وقد مُنح هو وزملاؤه إجازة للراحة بعد انتهاء الدورة، فحين عرف، رحمه الله، أن هناك مهمة للقوات المسلحة الإماراتية ستباشر عملها في كوسوفو بعد أيام قليلة من انتهاء دورته العسكرية، ما كان منه إلا أن بادر في اليوم التالي لإنتهاء الدورة العسكرية ليكون على رأس عمله، متجاهلاً تلك الإجازة طالباً أن ينظم إلى القوات التي ستشارك في تلك المهمة النبيلة، وأصر على ذلك إصراراً عجيباً، وكأن تلك المشاركة تمثل حقاً من حقوقه المكتسبة التي لا يمكن أن يتخلى عنها، على الرغم من أنه سيبدأ فترة راحة بعد دورة عسكرية شاقة، وحين سأله أحدهم لماذا تبحث عن المتاعب والمخاطر في بلد تعصف به الحروب؟ فلست مضطراً للذهاب والمشاركة في المهمة ما دمت لم تُكلف بها، فكان رده، رحمه الله، عن أي مخاطر تتحدث، فإذا مت فسأموت هناك شهيداً ولا يوجد ما يدعو للخوف والرهبة، واستبشر وجهه وحمل حقيبته فور أن وردته الموافقة على مطلبه المُلح.

كان، رحمه الله، عسكرياً فذاً مخلصاً لدينه ثم وطنه وقيادته وعقيدته العسكرية، فكان يسعى جاهداً للانتساب لأي دورة عسكرية لم يسبق له الانتساب إليها، ولا يجتازها إلا متفوقاً متبوءاً دائماً المراكز المتقدمة، بل وذهب إلى أبعد من ذلك؛ فحين وجد نفسه قد تشبع من التدريبات العسكرية وبلغ مرحلة متقدمة، أخذ يبحث عما هو أبعد من ذلك لرفع كفاءته وقدراته العسكرية، فطلب من تلقاء نفسه الانتقال إلى القوات الخاصة ليخوض التدريبات العسكرية الخاصة والأكثر تقدماً، وكان الانتقال للعمل في القوات الخاصة سيتطلب منه الانتظام في العمل في إمارة أبوظبي، بينما هو من سكان إمارة دبي، وكان يؤدي خدمته العسكرية آنذاك في دبي، وذلك ما دعا بعض زملائه للتساؤل عن سبب تركه مقر عمله القريب من منزله وأسرته والذهاب إلى أبوظبي، فمن الطبيعي أن يفضل الشخص مقر العمل القريب من منزله ومن عائلته وأن يتجنب عناء الرحلات الطويلة لمقر عمله، إلا أنه كان حازماً دائماً في ردوده على تلك التساؤلات بأن روحه فداء لهذا الوطن، موضحاً لزملائه أهدافه النبيلة وأنه يسعى لتعزيز قدراته وكفاءته العسكرية باستمرار وأن لا يقف عند حد معين.