بُعيد سقوط دكتاتورية الحزب «العلماني» الواحد في العراق عام ، 2003، سرعان ما استيقظت من نومها أحزاب وحركات دينية وطائفية وقومية عرقية، وأقليات إثنية أخرى. قبل ذلك لم تكن تلك الأحزاب والحركات ظاهرة على السطح، على الأقل.

قسم منها كان ميتاً عملياتياً وآخر مختبئاً أو مكبوتاً أو مطارداً أو مسحوقاً، أو كامناً ينتظر فرصة لإعادة الحياة الحزبية إليه.

أكثر ما يجلب الاهتمام، والدهشة في آن معاً، في المشهد العراقي هو سيطرة أصحاب العمائم على مجرى الحياة السياسية ومراكز تصنيع القرار. هذه تتمثل بدور سيادي بارز في الرئاسة والحكومة والبرلمان، والقيادات والأذرع الأمنية. الوضع نسخة شبه طبق الأصل عما جرى ويجري في إيران، بعد سقوط شاه إيران قبل نحو 35 سنة. ظهرت طبقة من السياسيين مزيج من الفكر الديني المذهبي والسياسي والتوجه الحربي العسكري الأمني. جل المعممين يؤمنون بضرورة تطبيق الحلول الأمنية الفظة. يريدون «بالعافية» تحقيق ما يصبون إليه من أفكار وسياسات باتت في حكم القديمة بل الميتة؛ بسبب مرور عقود وعهود من الزمن على زوالها أو انقراضها.

المعممون، كما السياسيون، أشكال وألوان وذوو خيالات تختلف من شخص لآخر؛ ومن زمان ومكان إلى آخريْن، أي الزمان والمكان. لهم أفكار ونوايا وحسابات وأجندات. لديهم طرق ووسائل دعم وتمويل. أغلبهم سيئ الحال محبطون مأزومون، وفيهم الجيدون الواقعيون المتفائلون؛ على الرغم من قلة نسبة الأخيرين. نتائج أعمالهم تدل عليهم وتتلخص في بث ونشر الفتن والقلاقل والفوضى؛ من حيث يدرون ولا يدرون.

أكبر الأخطاء جسامة بحق الشعوب امتلاك المعممين أسلحة. هذه تتراوح في القوة بين الخفيفة والمتوسطة والثقيلة. لا بل باتوا يمتلكون الصواريخ البالستية والطائرات الحربية النفاثة والمروحيات والمدفعية بعيدة المدى. يدكون المدن والقرى والبلدات ومخيمات النازحين من أهل الوطن بنيران تكاد لا تبقي خلفها ولا تذر. لدى المعممين عقيدة طائفية عسكرية سياسية تتلخص بأنهم على حق حتى لو حرقوا كل الأخضر واليابس من الأرض والبشر والطبيعة.

يلقون باللائمة على خصومهم بأسلوب خطابي ثيولوجي تقليدي لا يزال يلقى صدى جماهيرياً واسعاً وقبولاً عارماً لدى الدهماء والعامة.

جل المعممين يتلقون دعماً خارجياً. لا يبالون من أين يأتيهم الدعم؛ سواء من الشيطان الأكبر أو أي شيطان آخر، يتفق أو يختلف معهم فكرياً وحتى عقائدياً. يعتقدون أن السلاح الذي يصل إلى أيديهم يصبح شرعياً، بل مقدساً رغماً عن جهة التصدير والسمسرة، والدماء المهدورة نتيجة لذلك. اللامعون من المعممين تلقوا دعماً مالياً كبيراً ومعلومات استخبارية مثيرة للجدل من جهات دولية مقابل فتاوى تصدر منهم من شأنها أن تحرق العراق، في طول البلاد وعرضها.

من لا يتلقى دعماً مالياً خارجياً فإن له أتباعاً في الداخل لا يمانعون التبرع بالغالي والنفيس لضمان ملء جيوب المعممين، ليستمروا على نهج تخريب العراق. قلة من المعممين فاءت إلى رشدها، وهي تعاني الحرمان والتهديد والخطر على الحياة والوجود.

السؤال الواقعي المطروح هو هل يمكن وقف حمام الدم في العراق؟ الجواب هو نعم نظرياً ويأخذ سيناريوهات عدة. السيناريو الأول هو وقف الحرب بعد استنفاد الدم العراقي بشكل شبه كامل، ذلك أن المعممين أشعلوا كل مكان في العراق، بحيث بات المواطن العراقي في حالة حرب مع غيره، وحتى مع نفسه إن لم يجد عدواً ميدانياً يتمثل بأخ له أو جار أو زميل أو صديق أو عدو. السيناريو الثاني هو التخلص من سيطرة المعممين السياسية والأمنية والاجتماعية وحتى الأيديولوجية.

ذلك عمل جبار يحتاج لتضافر جهود المجتمعات المحلية والإقليمية والدولية؛ واقعياً غير متاحة ولو بالحد الأدنى. السيناريو الثالث هو نزع سلاح الشعب العراقي وجعله يقاتل فقط بالأيدي والعصي والحجارة إذا ما أراد الاستمرار في القتال، أو التقتيل بالأحرى.

خلاصة القول فلقد أشعل المعممون نيراناً بات من شبه المستحيل إطفاؤها. العمل والاهتمام والجهود تتركز الآن على سبل احتواء نار المعممين التي يطال شرر منها كالقصر! يطال القاصي والداني. لا يمانع المعممون في ذلك، بل يتفاخرون بقدراتهم على نشرها حتى في الدول التي فيها الأمن والأمان والسلام. المعممون وإن بدوْا على أنهم أصحاب دعوة لسلوك الدرب أو الصراط المستقيم إلا أنه في طيات دعوتهم تتربع شياطين الحروب والفتن والقلاقل وعدم الاستقرار، وحتى انعدام الأمن والأمان.