اكتسبت الإمارات العربية المتحدة سمعة عالمية في تحقيق تحوّلات إعجازية، تقريباً في كل المجالات التي يمكن أن تخطر في البال.

فقد تحوّلت قرى كانت تعتاش سابقاً من صيد الأسماك إلى مدن طليعية رائعة تصل إلى عنان السماء بالمعنى الحرفي للكلمة، وبفضل تقنية تحلية مياه البحار، تحوّلت مساحات شاسعة من الصحراء التي كانت قاحلة سابقاً، إلى مساحات خضراء أو أراضٍ زراعية خصبة، وأصبح الماء يتدفق بدون انقطاع في صنابيرنا ويروي حدائقنا.

لقد تحلّى حكّامنا بالتصميم والتبصّر لمواجهة درجات الحرارة الشديدة الارتفاع في فصل الصيف، وندرة الأمطار، والطبيعة الرملية للتربة، من أجل زراعة محاصيل لم يرَ أبناء جيلي مثيلاً لها، أو يتذوّقوا مثلها التي تُعتبَر من المسلّمات في أماكن أخرى من العالم.

ما زلت أذكر عندما كانت العائلات تخزّن معلّبات من الخوخ النادر المستوردة من الخارج لفتحها في المناسبات الخاصة مثل حفلات الزفاف، وكان الفتية يقطعون مسافة بعيدة وصولاً إلى البحر، ليطلبوا من ركّاب السفن السياحية الراسية في الميناء أن يلقوا إليهم البرتقال.

يعود الفضل في التطورات الهائلة التي شهدها القطاع الزراعي في بلادنا، إلى أحد الآباء المؤسسين، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي كانت نشأته في بلدة العين الخصبة، وراء عشقه للطبيعة وما تقدّمه من هبات ومزايا.

لقد أرسى الشيخ زايد الأسس المطلوبة عبر بناء السدود، وزراعة أشجار المنغروف، وتسوية الكثبان الرملية بالأرض، وإنعاش النظم التقليدية للري، وتبنّي نظام تحلية المياه عندما كانت لا تزال تُعتبَر تقنيةً ثورية. كان القوة المحرِّكة خلف إنشاء مزرعة اختبارية كبيرة لزراعة الفواكه في جزيرة صير بني ياس، وقد تضمّنت العديد من المحطات الاختبارية المتخصصة في الأبحاث الزراعية.

لقد تحقّق ما لم يكن وارداً في الحسبان، فباتت الإمارات العربية المتحدة تصدّر اليوم الأسماك والدواجن والبيض ومشتقّات الحليب فضلاً عن الخضار والفواكه، مثل الجوافة والموز والعنب والحمضيات والمانغو، ناهيك عن الفراولة الحلوة المذاق الشهيرة التي تُزرَع في إمارتَي الشارقة والعين، وإمارة رأس الخيمة الجبلية التي تبيّن أنها تضم أفضل أنواع التربة والمناخ الأكثر مؤاتاةً في البلاد لزراعة الفواكه والخضار.

من التطورات الأكثر ابتكاراً وإثارة للاهتمام الاستخدام التجاري للزراعة المائية، حيث يُزرَع النبات والخضار وأصناف متنوّعة من الفواكه، وحتى الأرز، في ماء ممزوج بمعادن ومغذّيات، من دون تربة، فضلاً عن إسهام هذه الوسيلة في الحفاظ على الماء، هذا المورد القيّم، لكونها تتيح إعادة استخدامه، وتسمح للنبات بأن ينمو بوتيرة أسرع، وبما أنه يمكن تكديس النباتات بعضها فوق بعض، فلا تحتاج هذه الوسيلة إلى مساحة كبيرة من الأراضي.

وكذلك تُزرَع المحاصيل بكميات كبيرة في بيوت بلاستيكية يجري التحكّم بالظروف المناخية داخلها، وفي أنفاق مغطّاة بالألياف. حتى وقت قصير، كانت زراعة القمح تُعتبَر أمراً صعباً وبعيد المنال، لكن محطة بحثية في العين تقوم بدراسة مئة نوع من القمح، معظمها مزروع بواسطة بذور مستوردة من المكسيك، لمعرفة الأنواع الأكثر تكيّفاً مع المناخ. ينظر المستشارون الأجانب في شكل عام بطريقة سلبية إلى جدوى زراعة القمح بكميات تجارية، لكن الإماراتي لا شيء عنده مستحيل! والمزارعون الإماراتيون لن يستسلموا.

كان البلح الذي يزوّد المرء بالطاقة، عنصراً أساسياً في النظام الغذائي للسكان خلال النصف الأول من القرن العشرين، فهو يحتوي على كميات كبيرة من الفيتامينات، وكان يُستخدَم أيضاً في إطعام الجِمال والماعز. تُزرَع أشجار النخيل في مختلف أنحاء المنطقة منذ آلاف السنين؛ ولولا هذه الثمرة الواهِبة للحياة، ربما لم يكن أجدادنا ليتمكّنوا من البقاء والصمود.

كانت أوراق النخيل وسعفه تُستخدَم في صنع منازل الباراستي أو العريش، وقوارب الصيد الصغيرة، والسلال والحصير، وكانت الطبقة الخارجية للشجرة تُحوَّل إلى حبال وأكياس، في حين أن الخشب كان يُستخدَم في صنع المفروشات، وصناديق التخزين، ودعائم الخيَم. وكانت ثمرة البلح، سواءً طازجة أو مجفّفة أو محفوظة في شكل مربّى، تؤمّن الغذاء والبقاء على امتداد العام، لهذا تحظى نبتة البلح بتقدير كبير لدى الإماراتيين، وتُقدَّم إلى الضيوف تعبيراً عن حسن الوفادة.

يُشار في هذا الإطار إلى أن نحو 95 في المئة من البلح الموجود في العالم يُزرَع في الشرق الأوسط، واليوم، تحتل الإمارات العربية المتحدة مرتبة متقدّمة في قائمة الدول المصدّرة للتمر، إلى جانب السعودية ومصر، حيث تنتج أكثر من 44 مليون شجرة نخيل نحو مئتَي نوع مختلف من ثمرة البلح.

وقد أعلنت شركة الفوعة التي تُعتبَر أكبر شركة للتمور في البلاد، عن خطط لإطلاق «سلسلة من متاجر البلح والتمور عالمياً بهدف تعزيز استهلاك التمور الفائقة الجودة، ونشر التوعية حول التمر الإماراتي»، فضلاً عن مشتقّاته مثل العصير وألواح البلح وشوكولا البلح والمربّيات وقوالب الحلوى والمثلجات. ومن أبرز المحطات في روزنامة مزارعي البلح مهرجان ليوا للرطب الذي يُنظَّم سنوياً، ويتم خلاله توزيع جوائز على المزارعين الذين ينتجون الثمرة الأكثر صحية والأطيب مذاقاً.

تحتل الأسماك أيضاً موقعاً أساسياً في الإمارات لناحية الاستهلاك المحلّي فضلاً عن التصدير، وإلى جانب الأنواع المحلية، تضم البلاد الآن مزارع لأسماك السلمون، وتُستخدَم وسائل متطورة جداً لتربية أسماك الحفش التي يُستخرَج منها الكافيار. وتقوم جمعية دبي التعاونية لصيادي الأسماك بتربية نحو 50000 سمكة من أجل الحد من تناقص الأعداد لدى بعض الأنواع المفضّلة بالنسبة إلينا. وتشجّع أبوظبي، من جهتها، على إنشاء مزارع للتربية المائية من أجل ضمان توافر الأنواع الخمسة - الهامور والكوبيا والقبيط والتونة ذات الزعنفة الصفراء وأذن البحر - التي يكثر عليها الطلب.

خلال صباي، لو قال لي أحدهم إنه سيأتي يوم تُصدّر فيه الإمارات الزهور إلى هولندا، لاقترحت عليه رؤية طبيب. لكن في مطلع القرن الحادي والعشرين، بدأت البساتين فعلاً بتصدير الورود والأقحوان إلى هولندا وبلدان أخرى في أوروبا، على الرغم من تباطؤ الصادرات بسبب زيادة الطلب الداخلي.

وقد برزت دبي محطةً لاستيراد الزهور وتصديرها، ويستطيع مركز دبي للزهور الذي يمتد على مساحة مئة ألف متر مربع، ويضم منشأة للتخزين والتبريد مساحتها 34000 متر مربع، معالجة 150000 طن من الزهور في أي وقت.

ويتزايد الطلب أيضاً على المواد الغذائية العضوية، كما كتبت صحيفة «ذي ناشونال» الإماراتية في يونيو الماضي بالاستناد إلى نتائج استطلاع أجرته إحدى الجامعات الإماراتية، وقد جاء فيه: «يُبدي المستهلكون استعداداً لدفع أسعار أعلى مقابل الحصول على مواد غذائية عضوية مرخّصة، ويزيد هذا الاستعداد مع التقدّم في العمر، لأنهم يصبحون أكثر انتباهاً على صحتهم...». تتوسّع المزارع العضوية مواكبةً لتزايد الطلب الاستهلاكي، ما يفتح المجال أمام استثمارات أكبر في هذا القطاع.

قال الشيخ زايد في عبارة شهيرة: «أعطوني زراعة، أضمن لكم حضارة». لو كان معنا اليوم، لازداد شعوره بالاعتزاز والفخر أمام الخطوات الكبيرة التي قطعتها بلاده في هذا الاتجاه الذي أرسى قواعده. قد يتعذّر تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، لكننا نتكلّم اليوم عن الإمارات العربية المتحدة التي لا تعرف شيئاً اسمه المستحيل، ولا أحد يدري ما الذي قد تُحضّره لنا!