يروي لنا التاريخ العديد من الشواهد والأحداث التي تعطينا العبر، لنتعلم منها كي نستفيد في تعاملاتنا. وعلم السياسة يقدم لنا المنهج التاريخي، والمنهج المقارن لندرس الماضي..

ونقارن بين أحداثه كي يساعدنا على فهم الحاضر واستشراف المستقبل، فمعادلة أن التاريخ يعيد نفسه هي معادلة حاضرة وبقوة في العديد من التطورات السياسية، التي تحدث في العالم. ولعلنا في هذا المجال نستعيد الذاكرة السياسية لما حدث في اليمن في الماضي كي نفهم بعض الذي يحدث اليوم في ذلك البلد حتى يتسنى لنا الاستفادة، وأخذ العبرة منها.

لقد كان اليمن الجنوبي في فترة الستينيات بالذات مرتعاً لانتشار الفكر اليساري القادم من الاتحاد السوفييتي ومعه الصين الشعبية، فهذه الدول الكبرى كانت في صراع أيديولوجي مع الولايات المتحدة والغرب من أجل نشر فكرها وأيديولوجيتها الشيوعية في مناطق العالم المختلفة.

وأكثر ما تمثل ذلك في منطقتنا العربية كان في اليمن، حيث أخذ اليمن الجنوبي الفكر اليساري، وتأثر بشكل كبير بالمد الشيوعي. وكان ناجحاً فيه، حيث عمل على استقطاب العديد من أبناء المنطقة، لتبني الفكر اليساري ومواجهة الفكر القائم.

انطلاقة الخطر كانت من اليمن، حيث تمركز الفكر والتأثير اليساري، ومنه انطلق لدول الخليج، وكان شعاره تغير الوضع القائم، وفرض وضع جديد بعيد كل البعد عن الوضع المحافظ والتقليدي القائم في المنطقة.

ولعل منطقة ظفار في عمان كانت الأكثر تأثراً بهذا الفكر الجديد، نظراً لقربها من اليمن الجنوبي، فالفكر الثوري اليساري الذي كان منتشراً في اليمن الجنوبي لم يكن يستهدف ذلك البلد وحسب، بل كان يسعى للوصول به إلى المنطقة الخليجية باعتبارها الامتداد الجغرافي لمنطقة الجزيرة العربية. ما كان لسلطنة عُمان أن تواجه ذلك الخطر وحدها، بل كان للتحرك الخليجي دور بارز في المساعدة في القضاء على خطر اليساريين القادم من اليمن على السلطنة في تلك الفترة.

اليوم نعيش ذات التاريخ وإن كان بلاعبين آخرين، فبعد أن كان اليمن أداة في يد الروس والصينيين لنشر فكرهم في مواجهة الغرب ودول المنطقة، فإنه اليوم يستخدم من قبل إيران لنشر فكرها الأيديولوجي والسياسي، لفرض هيمنتها على المنطقة الخليجية..

فالحوثيون يجرون وراء أجندة غير وطنية قوامها السيطرة على البلد، والتحالف مع طرف خارجي لفرض واقع جديد يهدد أمن واستقرار الدول الأخرى في الإقليم، عبر نشر برنامج مخالف لما هو قائم في المنطقة.

ولعل الورقة الطائفية هي أخطر الأوراق المهددة لآمن دول المنطقة اليوم، حيث إنها تستغل من أجل العمل على ضرب النسيج الاجتماعي القائم بين سكان دول الخليج العربي. وما يحدث في العراق وسوريا ولبنان من تشرذم طائفي وراءه أطراف دولية إقليمية تسعى لتحقيق ذلك الهدف أمر يخيف الخليجيين.

ولعلهم أحسوا بذلك عندما سعت تلك المحاولات إلى ضرب النسيج الاجتماعي القائم في دول مثل البحرين والسعودية والكويت، أي أنها عملت بالفعل على الوصول إلى قلب المنطقة الخليجية لتحقيق هدفها في شرذمة التجانس المجتمعي، وبالتالي تفتيت المجتمعات لصالح أجندات غير وطنية.

فكما سعى اليساريون عبر اليمن إلى قلب أنظمة الحكم في الدول الخليجية في فترة الستينيات فإن الطائفيين في اليمن اليوم يسعون لتحقيق ذات الهدف. فالتاريخ يعيد نفسه..

ويفرض علينا أن نتأمل في أحداثه وأخذ العبر منها، فمن لا يتعلم من الماضي يفقد الكثير من القدرة على تجاوز محن الحاضر. ولعل الوقوف الحازم في مواجهة الخطر اليساري في فترة الستينيات والسبعينيات من قبل دول الخليج العربي ساعد بشكل كبير على وضع حد لتوغله في المنطقة، واليوم يعاد ذات السيناريو من جديد..

حيث إنه كان لا بد من أن تكون هناك وقفة خليجية حازمة في مواجهة التوغل الطائفي في اليمن المضر بأمن دول الخليج العربي تماماً، كما كان عليه الحال في السابق من قبل اليساريين. التاريخ يكرر نفسه، وإن كان بلاعبين آخرين، إلا أن العبر تبقى حاضرة للأخذ بها حتى يتسنى الاستفادة من الماضي في التعامل مع تطورات الحاضر، فطالما أن الخليجيين قد أخذوا بعبر الماضي وتعلموا منه فإن النجاحات كفيلة بأن تكون لصالحهم.

 فلا هوادة مع من يريد الإضرار بنا لا من قريب ولا من بعيد، فكما سقط مشروع اليسار المدعوم من الاتحاد السوفييتي- الدولة العظمى في ذلك الوقت- فإنه لا محالة إلا أن يسقط مشروع الطائفية المدعوم اليوم بقوة أقل بكثير من قوة موسكو، وذلك بفضل عزم وحزم أبناء الخليج العربي.

 

أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية- جامعة الإمارات