إننا نعلم أنه كانت هناك العديد من المبدعات الأوروبيات في الماضي، اللاتي كتبن بكثير من الحب الذي يرقى إلى حد العشق عن مصر، مثل هارييت مارتينو، التي ألفت كتاباً ضخماً، هو عبارة عن مذكرات رحلتها في الشرق الأوسط، وتجاربها في مصر، التي تركت تأثيراً عميقاً على تفكيرها.
وهناك أيضاً فلورنس نايتنجيل، التي كتبت كثيراً من الرسائل، وسجلت يوميات تدور كلها حول رحلتها في مصر. ولكن ربما كانت أميليا إدواردز (1831-1892)، التي كانت مثقفة وروائية متميزة تنتمي إلى العصر الفكتوري، قد بقيت موضع تجاهل حتى الإصدار الأخير للطبعة ذات الغلاف الورقي من كتابها «ألف ميل صعوداً في النيل».
وهذا الكتاب عمل مسل وحافل بالمعلومات التي تثير الفضول حول النساء. وقد عشقت أميليا مصر عشقاً جارفاً، إلى حد أنها لم تعد من رحلتها لتستأنف حياتها التي خلفتها وراءها، على نحو ما فعلت النسوة الأخريات من الرحالة، فرحلتها صعوداً في النيل، غيرت حياتها ومساهمتها في علم المصريات الحديث..
وجمالية الآثار القديمة، تلقى التقدير والاعتراف من كل من يهتمون بهذا الموضوع. وقد أسست جمعية اكتشاف مصر، وغدت رسالتها التي تحظى بالتقدير مرآة لها.
لم يكن سفر أميليا إدواردز إلى مصر في عامي 1873- 1874، أمراً خططت له بكثير من الدقة، حيث كانت قد استهلت مع صديق لها رحلة إلى فرنسا لرسم اللوحات، ولكنهما شعرا بالإحباط البالغ بسبب المطر الغزير الذي لا يعرف التوقف، بحيث قررا أن يذهبا إلى بلد مشمس، واختارا القاهرة، وانطلقا إليها دون أي خطط مسبقة.
لدى وصول أميليا إلى القاهرة، تم تكليفها بتأليف كتاب، حيث إنها كان قد سبق لها القيام بتأليف كتب رحلات من قبل، وهكذا، فقد قامت هي وبعض أصدقائها باستئجار فلوكة تنطلق بهم من القاهرة صعوداً في النيل إلى أبو سنبل في النوبة، وشرعت في القيام بالرحلة التي غيرت مجرى حياتها.
في 29 نوفمبر 1873، وصلت أميليا إلى القاهرة، وزارت هي وأصدقاؤها العديد من الآثار والمواقع التي تدرج في الكثير من الجولات السياحية التي تنفذها الشركات السياحية اليوم، وقد ذهلت حيال جمال المعابد والمواقع التي شاهدتها، بحيث قررت أن تقوم برسم صورتها عن هذه الرحلة لدى عودتها إلى إنجلترا.
وقد صدر الكتاب الذي يضم هذه الصورة في عام 1876، تحت عنوان «ألف ميل صعوداً في النيل»، وشق على الفور طريقه إلى قوائم أفضل الكتب مبيعاً، ولا يزال حتى الآن يعاد طبعه مراراً وتكراراً. والنص الكامل، وكذلك اللوحات الخاصة بهذا الكتاب وكتب أخرى، موجودة على شبكة الإنترنت أيضاً.
لم يقدر لأميليا إدوارد الزواج قط، برغم أنها خطبت في وقت من الأوقات، وأعمالها الروائية ليست مماثلة لما تكتبه السيدات عادة بالمعنى التقليدي، حيث تمضي رواياتها وقصصها القصيرة بعيداً عن الأجواء المنزلية.
كانت أميليا إدواردز كاتبة محترفة، غزيرة الإنتاج، تعتمد على قلمها في كسب عيشها، وكانت امرأة قوية حقاً، حيث كان أبوها ضابطاً في الجيش، خدم تحت إمرة ويلينغتون في حرب شبه الجزيرة، وكانت أمها سيدة إيرلندية، تنحدر من عائلة فيتزجرالد، ويبدو أن هذه الأم كانت امرأة ماهرة مفعمة بالحيوية، وربما استمدت منها أميليا ذكاءها الوقاد، وذهنها المتوهج.
بدأت أميليا إدوارز في الكتابة في سن جد مبكرة، ومضت لدراسة الموسيقى على نحو جاد، وكانت تعلق الآمال على أن تصبح مغنية أوبرا، وكانت فنانة تشكيلة موهوبة كذلك. وفي الواقع، أنها قامت بنفسها بتصوير بعض كتب رحلاتها.
وكنتيجة لرحلة أميليا صعوداً في النيل، قامت بالتأليف وإلقاء المحاضرات في علم المصريات في إنجلترا والولايات المتحدة طوال ما بقي من عمرها.
عندما توفيت أميليا إدواردز، تركت حوالي 5000 جنيه إسترليني لكلية لندن الجامعية، لتأسيس كرسي أستاذية لعلم المصريات في أي جامعة بريطانية، وشددت على أن يشغل هذا الكرسي الاختصاصي الشهير فلندرز بيتري، كما تركت أيضاً كتبها وتحفها لكلية لندن الجامعية، وهي موجودة الآن في قاعة مصممة ومجهزة خصيصاً لهذا الغرض، تحمل اسم مكتبة إدواردز.
رحلت أميليا إدواردز عن عالمنا في عام 1892، نتيجة لتعرضها لنوبة إنفلونزا أصيبت بها، بينما كانت تشرف على تفريغ ونقل التحف في مرفأ ميلوول، وكانت قد وهبت العشرين عاماً الأخيرة من عمرها بكاملها، لمصر.