قبل أكثر من 1436 عاماً بدأت هجرة المسلمين. وقتها كان الإسلام في بداياته الأولى، وكان بعض أهل مكة هم أول من اعتنقه، وكانت الهجرة من مكة إلى المدينة فراراً من ظلم ذوي القربى؛ كفار مكة الذين لم يتقبل زعماؤهم فكرة الدين الجديد الذي جاء يدعوهم إلى ترك عبادة الأوثان، ويحثهم على عبادة خالق الأكوان. من يومها بدأنا نؤرخ بما قبل الهجرة النبوية الشريفة وما بعدها، ليكون التاريخ الهجري هو سجلّ أحداث المسلمين الذي يمتازن به عن غيرهم من الأمم.

1436 عاماً هجرياً مرت، جرت معها مياه كثيرة في نهر تاريخ المسلمين، خاضوا خلالها حروباً كثيرة، وتعرضوا لغزوات كثيرة من أمم مختلفة، وشهدت بلدانهم مجازر كثيرة ارتكبها الغزاة الذين جاؤوا من جهات الأرض الأربع للانتقام من الدولة الإسلامية التي مدت نفوذها إلى مناطق كثيرة من الكرة الأرضية، ما كان للعرب أن يصلوها لولا الإسلام الذي أعزهم ورفع شأنهم بين الشعوب والأمم، وفتح لهم بلداناً كثيرة، ما كان لهم أن يدخلوها لو ظلوا متفرقين متناحرين.

واليوم، وبعد 1436 عاماً من تلك الهجرة التي كانت فتحاً كبيراً، نقف لنتأمل حالنا وحال الذين يهاجرون من البلدان التي رفرفت عليها راية الإسلام بفضل تلك الهجرة الأولى التي احتفلنا بمرور 1436 عاماً عليها قبل أيام قليلة، لنبدأ عام 1437 ونحن نقارن بينها وبين الهجرات التي نعيشها اليوم، وأسبابها والمتسببين فيها، لنعرف أين كنا وأين صرنا، وكيف أصبحنا وكيف سنمسي، هذا إذا كان المساء سيحل ونحن ما زلنا نحتفظ بكياننا وأوطاننا، وبالعزة التي منحتنا إياها تلك الهجرة الأولى، حتى أصبح تاريخنا يُعرَف بالتاريخ الهجري، تيمنا بتلك الهجرة المباركة وتخليداً لها، واعترافاً بمكانتها بين أحداث البدايات الأولى لظهور الإسلام وانتشاره، واحتلاله لمكانته بين الأديان السماوية التي كانت معروفة آنذاك، وتلك التي كانت من صنع البشر وضلالاتهم، وخيالات أفكارهم.

قبل تلك الهجرة التي نؤرخ بها، يذكر لنا التاريخ أنه حدثت هجرتان إلى الحبشة، فكانت الهجرة الأولى في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة، وكان عدد المهاجرين 11 رجلاً و4 نساء على رواية، و10 رجال و3 نساء على رواية أخرى، وكان أهل الحبشة يدينون بالمسيحية، وقد لقي المهاجرون منهم معاملة حسنة، لكنهم لم يمكثوا فيها أكثر من 3 أشهر، عادوا بعدها إلى مكة لما وصل إلى علمهم من امتناع قريش عن تعذيب المسلمين وقتلهم، لكنهم وجدوا قريشا قد تمادت في الاضهاد والتعذيب، فعاد بعضهم إلى الحبشة مرة أخرى، وذهب معهم مهاجرون آخرون، فكانت الهجرة الثانية، وكان عدد المهاجرين هذه المرة 82 مهاجراً في معظم الروايات، و103 مهاجرين في رواية ابن هشام، أقاموا في الحبشة على خير ما ينبغي، واشتغلوا بالزراعة والصناعة، فأحبهم الأحباش وعاملوهم معاملة طيبة، وأكرم ملك الحبشة «النجاشي» مثواهم وحماهم، ورفض إعادتهم إلى مكة عندما أرسلت إليه قريش وفداً محملاً بالهدايا لاسترجاعهم، وظل بعضهم مقيماً في الحبشة حتى السنة السابعة للهجرة، حيث انتقلوا إلى المدينة المنورة.

الشاهد في حديث الهجرة أنها ليست طارئة على هذه الأمة، لكن الفارق بين الهجرات الثلاث التي حدثت في فجر الإسلام، وبين ما نشاهده اليوم من هجرة الكثير من العرب والمسلمين عن ديارهم كبير ومختلف، فقد كانت تلك الهجرات فراراً من اضطهاد الكفار الذين لم يتقبلوا الدعوة الجديدة في بداياتها إلى ديار يؤمن أهلها بالتسامح، ويوفرون لهم الحماية والعيش الكريم، سواء كان أهل تلك البلاد من الأحباش المسيحيين، أو الأنصار الذين كان عددهم قد زاد في المدينة، رغم أن اليهود كانوا يقطنونها أيضاً، وهي الهجرة التي كانت واجبة بأمر من الله ورسوله، ثم نُسِخ حكمها بعد فتح مكة، وكان المتسببون في تلك الهجرات كفاراً رفضوا الدخول في الإسلام.

أما ما نشاهده اليوم من هجرات فإن أغلب المهاجرين فيها مسلمون، والمتسببون فيها مسلمون أيضاً كما يدّعون، يرفع بعضهم شعار الوطنية، ويرفع بعضهم الآخر راية لا إله إلا الله، ويطلق على نفسه اسم «الدولة الإسلامية» معلناً الخلافة، وهو يسفك دماء المسلمين، ويُعمِل فيهم السيوف والسكاكين. يسبي نساءهم، وينهب أموالهم، ويصادر بيوتهم، ويدفعهم إلى الفرار من أوطانهم، واللجوء إلى بلاد «الكفر» كما يسميها، في تناقض عجيب لا يقبله عقل، ولا يقره منطق سليم.

هذا من حيث أسباب الهجرة والمتسببين فيها، أما من حيث الأعداد فحدث ولا حرج، إذ لا مجال للمقارنة بين عدد المهاجرين الأوائل الذين فروا من مكة إلى الحبشة والمدينة، وبين أعداد الذين يفرون اليوم من أوطانهم إلى حيث تلقي بهم أقدارهم، ليبدؤوا حياة جديدة، هم وأبناؤهم الذين لن يفكروا في العودة إلى بلدانهم حتى تزول عنها الغمة، وحتى تختفي الرايات السوداء والصفراء وغيرها من الألوان، وحتى يخرج الغرباء الذين أتوا من شتى بقاع الأرض لينصر بعضهم حليفه في إطار مشروعه الطائفي أو السياسي، ويحقق بعضهم حلمه بإحياء الخلافة وإقامتها على أرض ليست أرضه. ولا نظنهم خارجين في القريب العاجل كما تنبئ الأحداث.

بعد 1436 عاماً من الهجرة النبوية الشريفة ينكشف المشهد عن مهاجرين كُثر، تنقلب ببعضهم القوارب في عرض البحر قبل أن يصلوا إلى الضفاف الآمنة، ويفترش بعضهم أرض محطات القطارات بعد أن أغلقت في وجوههم الحدود، وعن أنصار قليلين، يقدمون العون ولا يُشكَرون.