تأتي هذه المقالة استكمالاً لسابقتها، والتي تناولت فيها المرحلة الأولى من مراحل عملية التخطيط الاستراتيجي لتوظيف قوانا الناعمة، وهو ما نطلق عليه «الدبلوماسية الشعبية»، لا سيما ونحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى مواجهة هذا الكم الهائل من الدعايات التضليلية المغرضة في وسائل الإعلام الدولية...
والتي تسعى للإساءة إلينا وإلى قيمنا وثقافتنا وحضارتنا وتراثنا وموروثنا العربي والإسلامي، وصولاً للإساءة إلى دولنا بهدف تشويه صورتنا وتصورينا كما لو كنّا آتين من العصور الظلامية.. وعصور ما قبل التاريخ.. جهل، وحشية، تخلف، وعدم احترام لحقوق الإنسان.. والغرض من كل ذلك خطير جداً..
قد يرتقي إلى استهداف عزلنا عن حلفائنا.. وتهيئة الرأي العام الدولي لقبول القيام باتخاذ أي قرارات من شأنها المساس بمصالحنا الوطنية العليا.. وبالتالي فإن البدء في عملية إيصال صوتنا، وإيصال حقيقة ما نحن عليه للرأي العام، ومخاطبة الشعوب الصديقة من أقاصي الغرب إلى أقاصي الشرق، وفق عملية مخططة وموضوعية للعمل الدبلوماسي الشعبي؛ أضحى أمراً ضرورياً حتمياً وذا أولوية قصوى..
كنت قد ذكرت أن عملية التخطيط الاستراتيجي للعمل الدبلوماسي الشعبي ليست باليسيرة، ولا يمكن إنجازها في غضون أسابيع أو أشهر قليلة.. بل تحتاج إلى وقت وجهد، وإلى فريق عمل من الباحثين المختصين، وإلى ميزانيات مستحقة تصرف في مظانها..
وتنقسم إلى أربعة مراحل دورية ومستمرة، الأولى كانت البحوث والدراسات التأسيسية، وهو ما تناولته المقالة السابقة، ثم مرحلة وضع الاستراتيجية، فمرحلة التكتيكات، فالبحوث التقييمية والتغذية المرتجعة، والتطوير: المرحلة الثانية..
وضع الاستراتيجيات: وتعد هذه المرحلة بمثابة القلب لعملية التخطيط كونها معنية باتخاذ القرارات بشأن التعامل مع التأثيرات المتوقعة من عملية التواصل مع الجماهير في الحالات المختلفة، فضلاً عن طبيعة الرسالة نفسها.. وتنقسم إلى ثلاث خطوات:
الخطوة الأولى: تحديد الأهداف (Establshing Goals And Objectives). وتركز هذه الخطوة على الوضع المراد الوصول إليه وفق إطار زمني محدد، والذي تسعى الدولة أو المنظمة الدولية ممثلة برئاسة الدبلوماسية الشعبية فيها، أو ما يماثلها، تسعى لتحقيقه في نهاية الخطة، حيث تساعد هذه الخطوة على أن يكون لدى إدارة القوة الناعمة والدبلوماسية الشعبية أهداف واضحة، ومحددة، وقابلة للقياس.
بحيث تعكس هذه الأهداف التأثير المأمول على مستوى الإدراك والقبول وصولاً إلى ترجمتها لأعمال لدى الجمهور المستهدف. ولا يكون الموضوع مجرد ارتجال فقط. الخطوة الثانية: صياغة الفعل واستراتيجيات رد الفعل (Formulating Action And Response Strategies): هناك العديد من الإجراءات الممكنة المتاحة أمام العاملين في مجال الدبلوماسية الشعبية (الدبلوماسية العامة)، ومن خلال هذه الخطوة يتم النظر في ما يمكن عمله في مختلف الوضعيات والاحتمالات المتوقعة..
وتتضمن هذه الجزئية أنماط العمل الدبلوماسي الشعبي سواء في وضعيات المبادرات أو الاستجابات. وفعلياً يمكن القول إنه لا توجد خطة استراتيجية لكل الاحتمالات الممكنة، ولكن يتم وضع حملة مخططة بشكل جيد في ضوء كل الأهداف المحددة.
الخطوة الثالثة: إعداد استراتيجية الرسالة (Developing The Message Strategy). تتعامل هذه الخطوة مع شتى القرارات المزمع اتخاذها بشأن الرسالة الاتصالية، كتحديد الشخص أو الجهة التي ستقوم بإيصال رسالة ما، لجمهور محدد، محتوى الرسالة، نبرتها وشكلها أو أسلوبها، وما إن كانت لفظية أو غير لفظية...
وما شابه ذلك. ومن المفترض أن تتم الاستفادة في هذه الجزئية من نتائج الأبحاث التي جرى القيام بها في الخطوة المعنية بتحليل الجمهور المستهدف (الخطوة الثالثة من المرحلة السابقة) والمعنية بتحديد أفضل أساليب الحوار وأنماط الاتصال الأكثر إقناعاً وقبولاً لدى جمهور محدد وتخدم الأهداف النهائية. المرحلة الثالثة: التكتيك (Tactics): عبر هذه المرحلة يتم تحديد أدوات الاتصال (نوع الوسيلة الاتصالية) التي ستستخدم...
وتكون العناصر المرئية من خطة الاتصال أُنشئت. وتتكون هذا المرحلة من خطوتين: الخطوة الأولى: تحديد تكتيكات الاتصال المراد استخدامها (Selecting Communication Tactics): وتتعامل هذه الخطوة مع خيارات الاتصال المختلفة، ففي هذه المرحلة يختار المخطط بين التصنيفات الأربع:
1) الاتصال الشخصي وجهاً لوجه، وفرص المشاركة الشخصية كالاتصال الجمعي عبر المؤتمرات والندوات والأمسيات، وما شابه.
2) وسائل الإعلام التقليدية (الصحافة، الإذاعة، التلفزيون).
3) وسائل الإعلام الجديدة.
4) وسائل الإعلان والترويج (الإعلانات مدفوعة الأجر).
الخطوة الثانية: تنفيذ الخطة الاستراتيجية (Implementing The Strategic Plan): وعبر هذه الخطوة يتم تحويل المواد الخام والمخططات على الورق إلى وصفة ناجحة للاتصال الدبلوماسي الشعبي. حيث يقوم المخطط بتجميع التكتيكات المحددة في القائمة المتوصل إليها في الخطوة السابقة إلى داخل برنامج اتصال محدد ومتماسك.
وفي هذه الخطوة أيضاً يتم تحديد الميزانية، والجدول الزمني، ومن ثم البدء العملي بتنفيذ البرنامج وفق الخطة.
المرحلة الرابعة: البحوث التقييمية (Evaluative Research)
وهي المرحلة الأخيرة في عملية التخطيط الاستراتيجي، وتُعنى بالتقييم. حيث تساعدنا على تحديد إلى أي درجة تم تحقيق الأهداف المطلوبة، وما هو بحاجة لتعديل، أو ما هو بحاجة للاستمرار في تنفيذه عبر أنشطة الاتصال المعتمدة. وتستند بحوث هذه المرحلة على المناهج العلمية الخاصة بالتقييم وقياس فاعلية كل تكتيك جرى اتباعه عبر البرنامج لتحقيق الأغراض والأهداف المراد تحقيقها.
كما يتم عند الوصول لهذه المرحلة: تزويد صانع القرار بالاستطلاع والاستشعار، واختبارات الرأي العام، والتهيئة. وذلك بشكل دوري، وكل ما تطلب الأمر، بهدف دعمه في اتخاذ القرارات المزمع اتخاذها وفق رؤية عميقة واضحة من داخل بيئة الجمهور المعني، مع تزويده بتوقعات لردات الأفعال.