يلح الإسرائيليون منذ أكثر من شهر على أن لهم مكتب تمثيل دبلوماسي في الإمارات (عبر ممثلهم في منظمة ايرينا) على أكثر من مستوى ووسيلة، حتى هذا المعتوه الشغوف بالعلاقات العامة بيبي نتانياهو دخل اللعبة عبر «تويتر»؟ فما سر هذا الإلحاح على خبر أطلقوه هم وراحوا يعيدون إنتاجه بأكثر من شكل وبأكثر من تنويعة وبأكثر من وسيلة؟
لقد أطلق الإسرائيليون خبراً يمثل أسلوبهم المتفرد في الحرب الدعائية التي تستلهم مبادئ ذلك الفذ بول جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازي. لعلنا بحاجة إلى تذكير هنا: لقد قدم غوبلز للعالم أهم مبدأ في الحرب الدعائية: «لتمرير الكذبة لابد من نصف الحقيقة». لقد كان غوبلز وزير الدعاية النازي وشخصية بغيضة للحلفاء وكذلك بالنسبة للإسرائيليين، هذا ما يبدو على ظاهر السطح، لكن أكثر من استلهم مدرسة غوبلز في الدعاية هم الإسرائيليون وبتفوق.
في الحملة «الرمادية الناعمة» المتواصلة التي أطلقها الإسرائيليون ضد الإمارات منذ نوفمبر الماضي، فإن نصف الحقيقة هي عضوية «إسرائيل» في المنظمة الدولية للطاقة المتجددة (ايرينا) التي تتخذ من أبوظبي مقراً لها منذ العام 2009 (مثلها مثل أي منظمة دولية أخرى سواء الأمم المتحدة أو منظماتها التابعة) وأن إسرائيل ستعين ممثلاً لها في منظمة «ايرينا». أما الكذبة التي بنيت عليها فهي أن «العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات ستكون عبر ممثل إسرائيل في ايرينا».
يعرف الإسرائيليون جيداً أن الإمارات لا تفعل سوى احترام التزاماتها الدولية وأنها تحترم الأعراف والاتفاقيات الدبلوماسية المنظمة لاستضافة مقر أي منظمة دولية على أراضيها مثلها مثل سائر الدول التي تحتضن منظمات دولية على أراضيها سواء التي ترتبط معها بعلاقات دبلوماسية أو العكس. هناك أكثر من 100 دولة عضو بمنظمة «ايرينا»، فلماذا وحدها «إسرائيل» هي من تطلق حملة بأخبار متنوعة وبأكثر من وسيلة حول علاقات دبلوماسية مفترضة مع الإمارات عبر ممثلها في منظمة ايرينا؟
لا يدقق متلقي الأخبار العرب في تفاصيل من هذا النوع، ولا تستوقفهم حقيقة أن مصدر هذه الأخبار بالأساس صحف إسرائيلية قامت بنشر الخبر الأصلي فما كان من وسائل الإعلام الأخرى إلا إعادة بثه، أي إعادة إنتاج الكذبة الإسرائيلية. لكن السؤال لا زال مطروحاً: لماذا يلح الإسرائيليون بهذا الشكل على كذبتهم هذه بأن لهم علاقات دبلوماسية مع الإمارات؟
قد يعيننا على الإجابة سؤال آخر: ماذا يعرف العرب الآن عن إسرائيل غير قمعها الدموي للفلسطينيين؟ لا شيء. لا يعرف العرب أن بيبي نتانياهو لا يقوم بزيارات لأي عاصمة منذ فترة ليست بالقصيرة. فهو لم يقم أخيراً سوى بزيارة واشنطن وموسكو.
وإذا كانت زيارة واشنطن أمراً روتينياً لقادة إسرائيل، فإن زيارة موسكو كانت مرتبطة إلى حد كبير بالوضع في سوريا إضافة إلى حاجة الروس إلى تفاهم مع الإسرائيليين بعد أن أعلنوا دخولهم المباشر في سوريا وتحولهم إلى لاعب رئيس هناك. كان أبرز ما تمخضت عنه زيارة نتانياهو لموسكو هو الإعلان عن التنسيق بين البلدين فيما يتعلق بالغارات الجوية في أجواء سوريا تلافياً لصدام غير مرغوب بين المقاتلات الروسية والإسرائيلية.
هذه يعني: أن أي غارة تقوم بها المقاتلات الروسية على أي منطقة في سوريا تبلغ تفاصيلها مسبقاً للإسرائيليين شاملاً نوع الطائرات ومستوى تحليقها والمنطقة التي تستهدفها.
الأمر نفسه بالنسبة للغارات التي تشنها إسرائيل. عدا هاتين الزيارتين، ليس لنتانياهو أي نشاط دبلوماسي خارج إسرائيل. والسبب في هذا، أن هناك صدوداً دبلوماسياً يواجه إسرائيل على مستوى العالم خصوصاً في غالب دول أوروبا التي لم تعد تقبل بالمنطق الإسرائيلي والحجج الإسرائيلية لتعطيل عملية السلام وسياسات الاستيطان والبطش تجاه الفلسطينيين. لعل اعتراف السويد بالدولة الفلسطينية مؤشر على هذا الموقف الأوروبي العام حيال إسرائيل. دعكم من أميركا الجنوبية، فإسرائيل ليس لها أصدقاء كثر هناك ولا في آسيا.
وإذا كانت انتفاضة الشبان الفلسطينيين قد خلقت رعباً وسط الإسرائيليين وهستيريا، فإن هذا الاحتجاج مهما كان متفاوتاً وصغيراً ليس سوى تذكير متجدد للإسرائيليين بأنهم ليسوا سوى نسخة فجة لكل أنواع المحتلين عبر التاريخ ودولة آبارتهايد أخرى وأن العالم ينتظر منهم تنفيذ استحقاقات مؤجلة منذ 22 عاماً.
احتضان الإمارات لمقر منظمة «ايرينا» هو السبب الوحيد الذي يجعل منها هدفاً نموذجياً لحملة إسرائيلية «رمادية وناعمة» (تتناسب وولع نتانياهو بحملات العلاقات العامة) ليست مبنية على نبرة عدائية بل على تحريض للآخرين وتأليب، أما خلفيتها التي يمكن أن تستفيد منها فهي حالة عداء معلن بين الإمارات وتنظيم الإخوان المسلمين، وهي ليست الحملة الأولى على أية حال.
يبقى أمر لا يتذكره أحد إلا لماماً وبشكل معكوس للأسف هو ذاك المتعلق بالكشف عن قتلة القيادي في حركة حماس محمود المبحوح عام 2009.
فأولئك الذين كشفت شرطة دبي عن تورطهم في حادثة الاغتيال بالصور والجوازات المزورة التي دخلوا بها لم تكن سوى تدمير لفريق اغتيال تابع للموساد عبر كشفه للعالم بأسره.
فريق من وحدة «كيدون» في الموساد المختص بالاغتيالات، الذي قال تقرير في صحيفة غربية إن الكشف عنهم دمر ثلث هذه الوحدة تقريباً. فالكشف عن أسماء هؤلاء القتلة لا يعني سوى كشفهم أمام العالم - بما فيهم حلفاء إسرائيل - وهو ما يعني حرقهم وإخراجهم من الخدمة.
ذلك أمر لن يغفره الإسرائيليون للإمارات.