«العالم يزداد تعقيداً» مقولة مألوفة نرددها في بعض الأحيان، حين نعجز عن تفسير حدث ما، أو حين لا نتمكن من إتمام مهمة تحتاج لمهارة تكنولوجية دون مساعدة من الغير، وهي على أي حال مقولة ليس عليها غبار، فالقانون الطبيعي في التطور هو الاتجاه نحو المزيد من التعقيد.

ولكن لنترك هذه المسلمات جانباً، ولنذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، ونتطرق إلى الجانب النظري من ظاهرة «التعقيد» في أطر الدراسات العلمية، لنرَ ما يحيط بها من غموض على أكثر من مستوى وعن المجالات التي تطبق فيها.

استخدمت «نظرية التعقيد» في وضع استراتيجيات الإدارة، وبشكل خاص لإلقاء الضوء على مدى تكيف المنظومات الإدارية مع البيئة التي تعمل فيها، وعلى طرائق ذلك، وكيف تتفهم هذه الإدارات أو تواجه ما هو غير يقيني، وبما لا يتفق مع خططها، النظرية تتعامل مع المنظومات، على أنها مجاميع من التراكيب والعلاقات والاستراتيجيات. التركيب معقد، لأنه شبكة دينامية من علاقات التواصل، وليست مجاميع من الماهيات الخاصة بالأفراد.

أحد المسارات المنهجية والإجرائية لتفهم تركيب وأداء منظومة معينة، هو وضع نموذج أو نظرية لها لتفسير سلوكها، ومن ثم التنبؤ بما يجري فيها ولها من أحداث مكانياً وزمنياً.

مع مرور ما يقرب من مئة عام على البدء بالتنظير في المجال السياسي، واعتماد نموذج «المنظومة الميكانيكية» للعالم، لا تزال العديد من أحداثه لا يمكن تفسيرها وفق هذا النموذج، فهي تبعث على الدهشة، لأنها لم تكن متوقعة في أطر النموذج المذكور. فعلى سبيل المثال، وليس الحصر، نذكر بعض الأحداث التي حصلت في الماضي القريب، منها الانتهاء المفاجئ للحرب الباردة..

وانهيار المنظومة الاشتراكية، والأزمة المالية الآسيوية عام 1997، ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، والأزمة المالية العالمية عام 2008، ثم ظهور تنظيم داعش الذي يحظى باهتمام أيديولوجي وسياسي وعسكري بشكل غير مسبوق. هذه الأحداث، تعكس مقدار التبسيط في فهم «العالم» وما يجري فيه من أحداث، عن طريق النموذج الميكانيكي الذي يستند إلى السببية المباشرة،..

وهي تكشف عن مدى الحاجة لصياغة نموذج «لا ميكانيكي» لقراءة الواقع السياسي، حاضراً ومستقبلاً، فالنموذج الميكانيكي لا يستطيع تفسير حالات اللا استقرار واللا نظام الذي بدأ يطفو إلى السطح في بعض مناطق العالم، فهذا النموذج يستند إلى علوم القرن التاسع عشر، الذي صنع وصاغ الفلسفة «الحتمية». فالنموذج الموضوع عن المنظومة البيئية، أكثر قدرة على التنبؤ بأحداثها المقبلة، والتهيؤ لمواجهتها..

فالمؤتمرات التي تعقد حول المناخ على مستوى رؤساء الدول، يناقش فيها قضايا متوقعة على مستوى الدقة في الأرقام في حين تعجز النظرية الميكانيكية عن العالم عن تفسير أو توقع العديد من الأحداث السياسية.

إن طبيعة التغيير الذي يشهده العالم، أسرع من القدرات المتوافرة على تفهم أبعاده وإيجاد الحلول لمعالجته بمدارس المؤسسات السياسية التقليدية التي لا ترى ضرورة حتى الآن للتخلي عن قناعاتها بصحة النماذج أو النظريات التي تستند إليها.

كان من اقترح إيجاد بديل للتعامل مع القضايا السياسية في العالم، مجموعة من الباحثين في مجال «علم التعقيد»، شاركوا في وضع كتاب بعنوان «التعقيد في السياسة العالمية»، أسهم فيه ونشره نيل هاريسون المؤسس والمدير التنفيذي لمعهد التنمية المستدامة في كولورادو عام 2012. الكتاب يشير إلى ضرورة رفض النموذج الميكانيكي الذي يسطح النظر إلى العالم، وإلى أهمية إدخال نظرية المنظومات المعقدة complex systems theory في التحليل السياسي.

وهي نظرية علمية، تتعامل مع التعقيد في المنظومة، من خلال اعتبارها كياناً غير تكراري، وفي تغير دائم، بسبب تغير العلاقات بين عناصرها، وتغير نمط تأثيرها في سلوك بعض أجزاء المنظومة. فالعالم في تغير مستمر، فهو منظومة تنبثق عن أخرى سبقتها، من خلال تزايد وتنوع التداخلات بين عناصرها.

التعقيد في المنظومة، يعني زيادة عدد العناصر فيها، وزيادة عدد التأثيرات المتبادلة بين هذه العناصر، وزيادة طرائق هذه التأثيرات، وتزايد سرعة عمليات التغيير فيها. إلا أنه من جانب آخر، يضع التعقيد في هذه المنظومات عوائق أمام وضع النماذج الرياضية الدقيقة،...

لذلك يلجأ الباحثون إلى استخدام الأسلوب الإحصائي في وضع الاستراتيجيات، لدراستها وتفهم أداءها. دراسة هذه المنظومات، يحظى باهتمام علمي، خاصة ما يتعلق بالآليات التي تنبثق بها خصائصها من خلال العلاقات بين عناصرها.

مقاربة المنظومة السياسية العالمية بهذه الطريقة، وإعارة عمليات التغيير فيها ما تستحقه من اهتمام، يسمح لنا بقراءة أفضل لواقع الحال، وللتعرف بشكل أدق إلى مفاتيح التغييرات ومآلاتها. فالأزمات السياسية المنبثقة عن الصراعات الداخلية في العراق وسوريا وليبيا واليمن..

والتي تبدو بلا حلول، أمثلة على مدى فشل المقاربات التقليدية التي تعتمد بالدرجة الرئيسة على مدى الضغوطات التي تمارسها القوى العظمى على الفرقاء، والتي قد لا تستطيع في الكثير من الأحيان سوى تأجيل استحقاقاتها لمدى زمني معين..

وقد لا تستطيع التأثير في مسارات بعض الأحداث، فهناك، على سبيل المثال، بعض الدول في منطقة الشرق الأوسط، لا يمكن النظر إليها على أنها دول مثل غيرها فحسب، بل هي كيانات تشهد عمليات تغيير حثيثة نحو الانبثاق بشكل آخر، يستمد من الماضي مبررات لفرض حضور على حساب الجغرافية والقوانين الدولية.