روسيا وتركيا بينهما تاريخ طويل من العداء، فمنذ القرن السادس عشر، وعلى مدى أربعة قرون تلت، خاضت الإمبراطوريتان الروسية والعثمانية أطول سلسلة من الحروب، بلغ عددها اثنتا عشرة حرباً، كان النصر في معظمها لصالح الإمبراطورية الروسية.
هذه السلسلة من الحروب، توقفت مع سقوط الإمبراطوريتين في وقت متقارب، العقد الثاني من القرن العشرين، مع صعود الدور الأوروبي في تقرير مصائر أحداث العالم. إلا أنه رغم ذلك، بقيت هناك حالة مستمرة من الشد والتوتر بين البلدين، مرت بمراحل مختلفة، وأخذت بعداً استراتيجياً ذا طابع جديد، منذ انتماء تركيا لحلف الناتو عام 1952.
خرج العداء التاريخي بين الدولتين إلى العلن مؤخراً، على قاعدة خلافهما الشديد حول الموقف من مستقبل النظام السوري، والدخول الروسي القوي في الحرب الدائرة في سوريا لصالح النظام، وحادث إسقاط تركيا لطائرة السوخوي الروسية التي اخترقت أجواءها في الرابع والعشرين من نوفمبر المنصرم، والتي اعتبرتها روسيا عملاً عدوانياً غير مبرر، في الوقت الذي تصر فيه تركيا على أنها اتبعت قواعد الاشتباك المتعارف عليها دولياً..
وهي في حالة دفاع عن سيادتها، بعد العديد من الاختراقات لأجوائها. والحقيقة أنه ليس من المعلوم ما إذا كانت روسيا قد أرادت اختبار الناتو بهذه الاختراقات للأجواء التركية، أم أنه كان حدثاً غير متعمد، الحدث هو الأول الذي تسقط فيه دولة في حلف الناتو، طائرة روسية.
الناتو أعرب عن دعمه لتركيا، ودعا الطرفين إلى الابتعاد عن التصعيد، فالأعضاء البارزون في هذا الحلف، لا يخفون قلقهم من تنامي النزعة الشخصية لدى الرئيس التركي، ويقرّون بأن مواقفه تجاه الأزمة السورية، ليست في توافق مع مواقف قادة الناتو في واشنطن ولندن وباريس.
قابلت روسيا الحدث بغضب فائق للعادة، وتوجيه اتهامات خطيرة على أعلى المستويات، خاصة أن تركيا لم تعمد فوراً للتخفيف من تداعياته، بالاتصال بموسكو على مستوى الرئاسات، بل لجأت بدل ذلك إلى حلف الناتو، طالبة عقد اجتماع طارئ لدعم موقفها.
فقد ورد على لسان الرئيس بوتين، أقسى العبارات بحق تركيا ورئيسها، متهماً إياها بتوجيه طعنة في الظهر لبلاده، وبدعم الجماعات الإرهابية في سوريا، حيث ابتكر لها اسم شهرة، هو «شركاء داعش». كما وصف الناطق بلسان مجلس الدوما الروسي، حادث إسقاط الطائرة، بأنه جريمة، وأكد على أن الرابع والعشرون من نوفمبر، سيبقى يضفي بظلاله على العلاقات الروسية التركية.
حادث الطائرة يمكن أن يتكرر مرة أخرى في سوريا، فطبيعة الحرب في هذا البلد، وتضارب المواقف السياسية للدول المتدخلة فيها، خلقت أجواء تسمح بذلك. الحرب على تنظيم «داعش» وسيلة جديدة لظهور الخلافات الدولية حول مصائر القضايا.
روسيا وجدت في هذه الحرب فرصة لعرض قدراتها العسكرية، خاصة الصاروخية، التي أطلقتها من أسطول بحر قزوين، ثم من غواصة في البحر الأبيض المتوسط. واستغلت حادث إسقاط طائرتها، لتعزيز وجودها في سوريا، حيث نقلت أسلحة متطورة لا تتطلبها الحرب على «داعش»، خاصة صواريخ «إس 400» المضادة للطائرات، التي تجعل جميع الأجواء السورية تحت سيطرتها.
مستوى التصعيد وصل إلى درجة عالية، حين ورد على لسان الرئيس بوتن، تهديد باللجوء إلى السلاح النووي حين قال: «أتمنى ألا نضطر إلى استعمال رؤوس نووية على صواريخ كاليبر»، وهو نقلة نوعية في التصعيد الروسي، ليس على مستوى الحرب على داعش، وإنما على مستوى أوسع، يتجاوز منطقة الشرق الأوسط.
ومع أن أي تشابك عسكري بين البلدين لم يجرِ منذ إسقاط الطائرة، الحادث الأخطر بين البلدين، إلا أن الحرب الكلامية في اشتعال، ترافقها حزم من العقوبات الاقتصادية، شملت قطاع التجارة والسياحة والطاقة التي تشكل ما يعادل واحد في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فرضتها روسيا على تركيا، إضافة إلى حصول بعض الاحتكاكات البحرية في بحر إيجة والبحر الأسود..
وقيام روسيا بتأليب سياسي ضد تركيا في مجلس الأمن الدولي، حين طرحت مسألة توغل قطعها العسكرية في الأراضي العراقية في الثالث من ديسمبر الجاري، كقضية للنقاش داخل المجلس، وهي جزء من المحاولات الروسية لجر العراق إلى التحالف الذي عقدته روسيا مع سوريا وإيران.
الوضع الشديد التعقيد في الساحة السورية، عكس تعقيداته على العلاقات بين روسيا وحليفتها إيران، وبين تركيا وحلفائها في الناتو، فهناك تنافس شديد بين التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، والتحالف الذي تقوده روسيا في الحرب على تنظيم «داعش».
ومنذ الحرب العالمية الثانية، لم يشهد الساحل السوري حشداً بهذه الكثافة من البوارج الحربية والغواصات وحاملات الطائرات، ولم تشهد الأجواء السورية كثافة في وجود الطائرات الحربية المختلفة الانتماء، كما هو الآن.
ورغم أن أوساط سياسية عديدة في العالم، تستبعد احتمال نشوب حرب بين تركيا وروسيا، إلا أن أجواء التصعيد التي نشهدها على أعلى المستويات، قد تقود إلى نشوب حرب محدودة، تستعيد فيها روسيا هيبتها، وتشفي كبرياءها المثلوم، فهي متعطشة جداً للانتقام لحادث الطائرة.
هذا الاستبعاد يأخذ بنظر الاعتبار، أن حرباً واسعة ستجلب الناتو إلى ساحة الصراع، لأن تركيا دولة محورية فيه، وليس من المستبعد أن تستخدم في حرب كهذه ضربات نووية تكتيكية، قد تتوسع لما هو أكثر خطورة، وهو ما لا يرغب به أي طرف في الناتو، خاصة الأعضاء في القارة الأوروبية.