المقصود هنا هو النصر الدبلوماسي الكبير الذي حققته السياسة السعودية إقليمياً ودولياً في أزمتها الجارية مع طهران بعد تسهيل السلطات الإيرانية اقتحام حشود من الجماهير المقار الدبلوماسية السعودية في إيران وتخريبها، ولاشك في أن جانباً كبيراً من عناصر هذا النصر يعود إلى سوء التصرفات الإيرانية وعدم قدرة طهران على قراءة الموقف بشكل صحيح ودقيق فجاء رد فعلها وبالاً عليها.
أبرز مظاهر هذا النصر نجاح الرياض في تغيير دفة الهجوم تماماً في الاتجاه المعاكس على غير ما كانت تخطط وترغب إيران في الغالب، فقد كان واضحاً منذ بداية الإعلان السعودي عن إعدام سلطات المملكة سبعة وأربعين سجيناً بتهم الإرهاب والتخريب أن إيران ترغب في إثارة حملة دولية ضد الرياض بزعم تنفيذها لسلسلة إعدامات ضخمة يرفضها العالم تحت مظلة الدفاع عن حقوق الإنسان.
إلا أن إيران وكعادتها في مثل هذه المناسبات سلكت الطريق الخطأ فحولت القضية إلى «مسألة طائفية» بحصرها في أحد المحكومين، رجل الدين الشيعي النمر، وكأنها أعطت الضوء الأخضر لاقتحام وتخريب مقار البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران، لتجد طهران نفسها بعد ذلك ومعها أيضاً من ساندها من بعض شيعة الدول العربية والآسيوية في خانة الدفاع وليس الهجوم.
وكأن المملكة كانت تقرأ التوجهات والتصرفات الإيرانية المتوقعة في ضوء وقائع سابقة فنفذت قرارات الإعدام في حق المحكومين وهي تدرك جيداً حسابات كل خطوة محتملة وردود الفعل المتوقعة على الصعيدين الإقليمي والدولي، فسرعان ما ظهرت الحملة المنسقة لعزل إيران وبدلاً من توجيه الاتهامات أو الانتقادات للرياض تركزت الاهتمامات على التصرف الإيراني المخالف للقانون الدولي وللحصانة الدبلوماسية.
ونجحت السلطات السعودية بذلك في استصدار قرارات قوية من مجلس الأمن الدولي ومجلس التعاون الخليجي والمجلس الوزاري لجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي بإدانة التصرفات الإيرانية..
فضلاً عن القرارات المتتالية لعديد من الدول بقطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران وتبادل طرد السفراء والدبلوماسيين، لتجد طهران نفسها بالفعل في عزلة دبلوماسية وفي موقع الدفاع، علاوة على تراجع الحملة المؤيدة لها حتى من جانب بعض شيعة الدول العربية وكأنها بالفعل قد أوقعت إيران «في شر أعمالها» !
ومن هنا تأتي الدلالات المهمة لهذا النصر الدبلوماسي السعودي لعل في مقدمتها نجاح الرياض في انتزاع اعتراف عالمي كأمر واقع بحقها في إنفاذ قوانينها وأحكامها الداخلية حتى ولو تعارضت مع بعض التوجهات الخارجية خاصة فيما يتعلق بتنفيذ أحكام الإعدام، أضف إلى ذلك تلك النتيجة المزدوجة للتحرك السعودي والمتعلقة بقضية ولاية إيران على شيعة العالم داخلها وخارجها وعلاقتهم بها.
من حيث المبدأ جاء إعدام السلطات السعودية للنمر باعتباره مواطناً سعودياً بغض النظر عن المذهب أو العرق أو أي أمور تميزية أخرى..
وهي بذلك تقطع الطريق على طهران في التدخل الصريح والمباشر في الشأن الداخلي للدول الأخرى لأسباب مذهبية وإلا فإنها بتكريس هذا المبدأ تلعب بالنسبة لشيعة العالم نفس الدور الإسرائيلي ليهود العالم بغض النظر عن الحدود الجغرافية وحقوق السيادة الوطنية.
والدلالة الأخرى للنصر الدبلوماسي السعودي تتمثل في الواقع الجديد للدور الإقليمي الواسع الذي تلعبه الرياض على صعيد العديد من القضايا الملتهبة وفي المقدمة منها الأزمة السورية والحرب في اليمن ومكافحة الإرهاب علاوة على مواجهة النفوذ الإيراني..
وتدخلات طهران المباشرة والواضحة في أربع من دول المنطقة على الأقل هي سوريا ولبنان والعراق واليمن مستغلة أوضاعها الهشة والثغرات الأمنية والسياسية العديدة في بنيتها الهيكلية وظروفها المعقدة الراهنة، وبدون شك هذا الدور يستلزم سياسات من نوع خاص فضلاً عن أعبائه الجسيمة التي يبدو أن المملكة على أتم استعداد لتحمله كاملاً في تلك المرحلة الدقيقة التي تمر بها أمتنا العربية والإقليم عموماً.
ولكن ما يبعث على الارتياح وسط كل هذه الحسابات الصعبة هو تأكيد الرياض على إعلاء شأن السلام وتفضيل الحوار والحلول السياسية والدبلوماسية على أية حلول أخرى لثمنها الباهظ بالتأكيد.
وقد مكنها ذلك أو ساعدها بقوة على انتزاع إدانة دولية قوية للتصرفات الإيرانية، لم تجد طهران لها مخرجاً إلا بالاعتذار الصريح لما بدر منها، ولعل في ذلك ما يبعث على الارتياح، فأغلب الظن أن التصعيد السعودي لم يكن بلا هدف ولكنه في أقل تقدير كانت له رسائل قوية ينبغي وصولها لأطراف أخرى وأغلب الظن أنها قد وصلت بالفعل.
المنطقة ليست في حاجة إلى مزيد من التوتر أو فتح بؤر جديدة للصراعات والأزمات، وبالتأكيد ليست في حاجة إلى تصعيد للخلاف السعودي - الإيراني، بل باتت في أمس الحاجة للحوار والتفاوض تجنباً لما هو أسوأ وأيضاً لتطبيع العلاقات بين مختلف الأطراف..
وتستطيع منظمات إقليمية وأطراف أخرى عربية وإسلامية فاعلة أن تلعب دوراً في هذا الاتجاه المنشود لتفويت الفرصة على أطراف خارجية اختزلت الأزمة الراهنة في مشهدي إعدام النمر واقتحام المقار الدبلوماسية السعودية واعتبرتهما تصعيداً «للحرب السنية – الشيعية» والأمور ليست كذلك بالتأكيد ولكنهم يريدونها هكذا، ولم لا وهم الذين أطلقوا حرب المائة عام المذهبية عام 1980 بإطلاق الحرب العراقية – الإيرانية.. حرب الخليج الأولى.