يحتفل العالم هذه الأيام بمرور تسعين عاماً على اختراع التليفزيون، حين أراد «جون لوجي بيرد» أن تكون الصورة مصاحبة للصوت..
وهو الأمر الذي يعد في ثلاثينيات القرن الماضي نوعاً من الخيال العلمي، الأمر الذي أثار عند ظهوره الكثير من الخوف والترقب والكثير من الجدل والنقاش حول سبل التعامل معه ومدى تأثيره، الذي اتضح في مقولة شارل ديغول «أعطني هذه الشاشة الصغيرة وأنا أغير الشعب الفرنسي». وهو ما جعل البعض يعتقد أن التليفزيون سوف يقضي على كل الوسائل التي سبقته، وخاصة أن الصورة عندما تظهر تتوقف لغة الكلام، فالصورة هي عنوان الحقيقة.
والحق أن قيمة التليفزيون الحقيقية تأتي من أنه دخل البيوت واقتحم الخلوات ووصل إلى جمهور كبير كان بعضه فقط يرتاد دور السينما، وإن كانت المقارنة التي دائماً ما تتم بين السينما والتليفزيون باعتبارهما يتشاركان في الصوت والصورة، إلا أنها مقارنة غير متكافئة، ذلك أن الأدوار التي قام بها التليفزيون أوسع وأعمق وأثرها أكبر مما تقوم به السينما.
في تقديري أن التليفزيون جعل حالة الاستعلاء التي تتمتع بها الصورة حين تتطلب من جمهورها أن يذهب إليها الناس في دور السينما لم تعد في محلها، كما أنه قام بأدوار في مجال الخبر المصحوب بالصورة الثابتة أو الفيلمية..
وهو ما زاد من مصداقية ما يقدم، فمن رأى ليس كمن سمع، ثم نقل الحدث مهما كان مكانه وبثه مباشرة، ما حول الأرض إلى قرية صغيرة، ودخلت بنا الكاميرا التليفزيونية إلى الكهوف، وصعدت إلى سطح القمر، وغاصت بنا في أعماق البحار والمحيطات، لتقدم لنا عوالم كنا نسمع عنها فإذا بها تعيش بيننا.
لقد قام التليفزيون بدور كبير في التأسيس لعالم يعيش على صناعة الصورة، يقدم نفسه ويرى الآخرين من خلالها، فتقاربت الشعوب من بعضها البعض، وصار لدينا مخزون فكري وثقافي عن غيرنا من عادات وثقافة دون أن نذهب إليهم أو يأتوا إلينا، فاختصر الزمان وكثف اللحظة وأغنى حياة الإنسان وأزال الحاجز النفسي بين الثقافات فساعد على تقبل الآخر وفهمه..
كما صنع حالة من السلم المجتمعي وتمتين النسيج الوطني حين وحد الشعوب حول القضايا الوطنية الكبرى، وجعل من الشأن العام هماً خاصاً، فساهم في تعميق قيم المواطنة حين وسّع مدى الرؤية للفرد ونقله من الاهتمام بأموره الذاتية فقط إلى الاهتمام بقضايا المجتمع بل والقضايا العادلة لشعوب الأرض من حقوق إنسان ومقت العنصرية.
كما ساعدت الصورة التليفزيونية على تحريك الماء الراكد حول المشكلات التي يعاني منها المجتمع عبر إلقاء الضوء عليها، مما مثل ضغطاً يتطلب سرعة اتخاذ القرار من القادة والمسؤولين، وجعل للكلمة قوة وللصورة سحراً وسلطة لها نفوذ ولها تأثير.
ذلك غيض من فيض ما قامت به تلك الشاشة الصغيرة في دنيا الناس، فأصبحت جزءاً من حياتنا في المنازل وأماكن العمل والمكاتب، بل والسيارة وأجهزة الهاتف والساعات، صارت القرين الذي يلبيك حين تحتاجه فقط بكبسة زر.
وبالرغم من ظهور الكثير من الوسائط المتعددة والوسائل الاتصالية الكثيرة التي اقتطعت جزءاً من وقت الجمهور لمتابعتها، إلا أن التليفزيون استطاع أن يؤسس مكانه ما زالت تحتفظ بقوتها، وآية ذلك والشاهد عليه أن القنوات التليفزيونية تزداد يوماً بعد يوم، وأن المعلن ما زال على استعداد لضخ أموال طائلة ليقدم منتجه أو يعبر عن فكرته من خلاله..
وبخاصة بعد أن وجد التليفزيون أن الأرض قد ضجت بوسائل الاتصال والتواصل فانطلق إلى الفضاء مستفيداً من مستجدات العصر، ففتح آفاقاً جديدة وقدم عوالم متعددة، وجعل الاستغناء عنه أو تجاهله من الصعوبة بمكان، كما أنه ذهب بعيداً في تقنيات الصورة فضخمها وتطاول بها لتصبح غرف قاعات التليفزيون في البيوت كقاعات السينما وزيادة، ثم انطلق بالصورة لتكون فائقة الدقة بمراحل أربع ويصبح الصوت أكثر تجسيماً.
وعلى الرغم من كل ما قام به التليفزيون إلا أنه أثيرت ولا تزال الكثير من التساؤلات حول الأدوار التي يقوم بها هذا الجهاز السحري وعن حقيقة العوالم التي يقدمها ومدى مصداقيتها، وهل يعكس واقعاً أم يقدم واقعاً خاصاً به يختلف في كثير من الأحيان عن الواقع المعاش، فيصاب الجمهور بحالة من الاغتراب ومن خداع أو وهم الحقيقة حين يرى الظمآن السراب على أنه ماء.
كما أن الشاشات باتت تقوم على أساس طائفي أو مذهبي لتدمر جمهور بعضها البعض وتغتال بعضها البعض على مبدأ أنه أنا من أملك الحقيقة الكاملة.
هذا الجهاز الذي وحد الشعوب يوماً ما هو الذي ساعد في تمزيقها حين قدم الرسالة على أساس من تقسيم المجتمعات، وحين أصبحت الأزمات الإعلامية أحد أهم أسباب الأزمات السياسية، وحين بث خطاب الكراهية والتحريض بديلاً عن لغة التعايش السلمي وإدارة الحوار. لقد أصبح الخطاب التليفزيوني يقوم بدور دق طبول الحرب، كما أن الحروب تبدأ على شاشاته قبل أن تبدأ على الأرض.
كما أن قدرة على امتلاك بث قنوات تليفزيونية جعلت الرسالة الإعلامية المقدمة تدور في فلك المصالح الفردية بالأساس، ما يجعلنا بحاجة إلى إعادة التوازن للمشهد الذي يقدمه التليفزيون. تسعون عاماً ومازال التليفزيون قادراً على التأثير بالقدر الذي يثير فيه الجدال، مما يؤكد أنه وسيلة حية عصية على الانزواء.