الناجحون لا يتركون شيئاً للصدفة، فلا مساحة تُعطى لأي عبث أو خروج على النسق ولا مكان لأي مفاجآتٍ غير محسوبة، والكيانات العظيمة تستطيع التنبؤ بمستقبلها من خلال رسمها له وتخطيط ما تريد تحقيقه دون مبالغةٍ في التبسيط ودون سقوطٍ في دوامات الغرق في التفاصيل الصغيرة والمشكلات اليومية التي تحجب عنها رؤية الصورة الكبيرة والتحديات القائمة، فالمستقبل سيدين لمن يُحسن له التخطيط الآن إنْ لم يكن بالأمس، أمّا النائمون في العسل فلن تشرق عليهم شمس قادم الأيام بما يتمنون!

قبل أيام خرجت كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي بتصريح مقلق بأنّ نمو الاقتصاد العالمي سيكون مخيباً للآمال العام المقبل وفضلاً عن ضعف القطاعات المالية في العديد من الدول فإن المخاطر المالية تتزايد في الأسواق الصاعدة، ثم كانت الصدمة عندما حذّرت بأن الاحتياطيات المالية لبعض دول الخليج سوف تتقلّص بشكل كبير، وقد «تنضب» خلال خمس سنوات في حال واصلت أسعار النفط ترنحها ولم تعتمد تلك الدول سياسات جديدة!

إن السيناريوهات المتوقعة لمستقبل الاقتصاد العالمي لا تحمل أنباء جيدة، فرغم وجود طرح بإمكانية تعافي الاقتصاد الأميركي برتم أكثر سرعة من النمو الحالي البطيء إلا أن هناك توقّعاً باحتمالية تحول النمو البطيء لركود تام، نظراً لما يواجهه الاقتصاد الأميركي من ارتفاع في أسعار الفوائد والذي قد يجرّ معه لحالة الكساد الاقتصادي الصين واليابان وهي أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم، أمّا السيناريو الثالث فهو الأسوأ على الإطلاق إذ يسقط العالم برُمّته في كسادٍ تام كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي وحينها سيكون الملاذ الوحيد هو سندات الخزينة الأميركية!

يقول مَثَلٌ لدى قبائل الهنود الحمر: «عندما يتظاهر الثعلب بالعَرَج يقفز الأرنب العجوز هارباً»، فمستقبل الاقتصاد الملبّد بغيوم الريبة والخطر دعا رئيس الوزراء الصيني «لي كه تشيانغ» للتشكيك في كفاية وكفاءة بيانات الناتج المحلي الإجمالي وتبني مؤشرات أكثر تفصيلاً مستقاة مباشرة من كل القطاعات من أجل علاج مشكلات النمو المتذبذبة.

كما أرغم الوضع المقلق قبل أسابيع عدة عملاقتا صناعة الأدوية فايزرPfizer وأليرغان Allergan على الاندماج في صفقة بلغت 184.7 مليار دولار ليسجّل إجمالي عمليات الاندماج والاستحواذ لعام 2015 رقماً قياسياً لم يُسبَق في التاريخ بلغ 3.4 تريليونات دولار في إشارةٍ جليّة بأن عالم الأعمال لم يعد ينمو بشكلٍ طبيعي وأن التحديات القادمة أكبر من أن تتحمّلها مؤسسة واحدة مهما بلغ حجمها، فآثار الأزمة المالية العالمية ما زالت تنهش في أوصال الاقتصاد العالمي وشيخوخة المجتمعات تُسهِم في إضعاف الإنتاجية يوماً إثر يوم.

في هذا الوضع العالمي المتأزم والمتجهّم وهبنا الله قيادة استثنائية لا تؤمن بالحلول الإطفائية التي يعتمدها المتعاملون دوماً بمنهجية «ردّة الفعل» لا غير، وبكّرت منذ سنين في وضع حلول استباقية واستراتيجيات اقتصادية لا ترى النفط إلا كمصدر سينضب قريباً وهو ما عبّر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في إشارة لتلك الاستراتيجية التي تبتعد عن الاعتماد على النفط بقوله «عام 2050 سنحتفل بتصدير آخر برميل نفط».

وهو أمرٌ تم الاستفاضة في مناقشة بدائله من خلال «خلوة إمارات ما بعد النفط» والتي دشّنها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بقوله: «تطوير العقول البشرية هي العملة العالمية لاقتصادات القرن الحادي والعشرين والسبيل الوحيد لتحقيق تنمية مستدامة نقود من خلالها دولتنا نحو المزيد من التقدم والرخاء» قبل أن يوجّه سموّه بالإسراع في إطلاق استراتيجية متكاملة لإمارات ما بعد النفط.

«بو خالد»، حفظه الله، كان صريحاً وهو يقول إن التحول إلى عالم ما بعد النفط والنجاح فيه «هو الخيار الوحيد وسيتحقق ذلك بعون الله»، وأضاف في بيان ملامح ذلك التحول بقوله: «سنواصل استشراف المستقبل والتخطيط له وسنمضي في إطلاق المبادرات الوطنية الفاعلة وسنتبنى نهجاً غير تقليدي في رفد مسيرة التنمية الشاملة».

ثم قدّم رؤيته لإمارات المستقبل ومرتكزاتها: «نريد أن تكون دولة الإمارات متقدمة علمياً ونطمح إلى اقتصاد إماراتي متين يعتمد على الصناعات المتقدمة والبحث العلمي ونتطلع إلى ابتكارات إماراتية تغير حياة الأجيال القادمة للأفضل ونحن قادرون بحول الله وقوته وجهود أبناء هذا الوطن».

إحدى ترجمات هذه الرؤية أتت بإعلان صاحب السمو رئيس الدولة، حفظه الله، عن «السياسة العليا للعلوم والتكنولوجيا والابتكار» والتي تضمنت 100 مبادرة في قطاعات الصحة والتعليم والطاقة والنقل والمياه والتكنولوجيا، بالإضافة لمضاعفة الإنفاق على البحث العلمي 3 مرات حتى 2021 باستثمارات تبلغ 300 مليار درهم والتي تتضمن أيضاً أبحاث الفضاء وصناعات الطيران المتخصصة، وحوافز استثمارية وتشريعية لاستقطاب الصناعات الدوائية العالمية.

ودعم أبحاث الطاقة الشمسية، والطاقة النووية السلمية، وبرامج أبحاث الروبوتات والذكاء الاصطناعي والجينوم فضلاً عن الاستثمار في البنية التحتية كالجسور والأنفاق، وأكد صاحب السمو رئيس الدولة أن دولة الإمارات «تعمل على بناء مستقبل راسخ لأجيالها بعيداً عن الاعتماد على الموارد النفطية وأن دولة الإمارات حسمت خياراتها لعالم ما بعد النفط بالاستثمار في الإنسان وفي العلم والتقنية المتقدمة».

إن لمحة على بعض أرقام الاقتصاد المحلي تبث الطمأنينة بكفاءة المنهجيات، فعام 1980 بلغ الناتج المحلي الإجمالي 555 مليار درهم شكّلت القطاعات النفطية منها 79% بينما قفز الناتج المحلي حالياً إلى 1.5 تريليون درهم لا يمثل النفط منه سوى 25%، الأمر الذي يدل على النجاح الكبير في تنويع مصادر الدخل، فعلى سبيل المثال كان إسهام قطاع السياحة والطيران عام 1995 في الناتج المحلي 3.5% بينما يسهم حالياً في 30%.

إن القادم يحتمل كل السيناريوهات الجيّد منها والسيئ، لكن الشعوب العظيمة لا تزيدها التحديات إلا تماسكاً ولا تفلّ الظروف الصعبة والمحن لها عزيمة، وعندما تؤكد مجلة فوربس العالمية أنّ الإمارات من أقل الدول النفطية تأثراً بتدهور أسعار.

فما ذلك إلا لسلامة نهج القيادة الرشيدة وسياساتها الحصيفة والتي وضِعَتْ مبكراً فآتت ثمارها اليوم كما ستثمر مستقبلاً بعون الله، ففي الإمارات لا شيء للصدفة، هنا فكرٌ متفرّدٌ يُخطّط وسواعد صادقة تعمل وشعبٌ على قلبٍ واحد خلف قيادةٍ مُحبّة.