كان فاسيلي كاندينسكي محامياً روسياً مغموراً في بدايات القرن العشرين، واتفق أنْ مر بمتحف فن ألماني رأى فيه روائع «مونييه» فاستيقظ الفنّان بداخله دون مقدمات، ولكونه يفتقد أبجديات الرسم فلم يستطع أن يضع على لوحاته إلا خربشات وخليطاً متنافراً من الألوان وأشكالاً لا تُعرف إن كانت أشجاراً أم أعمدة إنارة.

ما جعل كل لوحاته مادة سخرية في روسيا وتمت مصادرتها من قبل البلاشفة لإساءتها للذوق العام، ولكن ابتسم الحظ له بعد أن تم تبني خطّه الفني من خلال الحكومة الأميركية كشكل من أشكال مناهضة الشيوعية وخرج لنا الفن التجريدي المفرّغ من كل جمال أو مضمون اجتماعي بدعوى أنه «المتمرّد» على الحكومات الاستبدادية و«رمز» إرادة التحرّر الوطني!

في كتابها الرائع «من الذي دفع للزمّار» تفضح ف.إس.سوندرز أساليب وكالة المخابرات الأميركية في تزوير الحقائق واختلاق الأكاذيب من أجل خلق توجّه معين للرأي العام المحلي والعالمي، فبعد أن كان الاتحاد السوفييتي حليفاً ضد النازية في الحرب العالمية الثانية بدأت الآلة الإعلامية الأميركية في تصوير ذلك الحليف كبعبع مرعب يستهدف الحضارة الغربية .

ويستعد لالتهام دول أوروبا التي أنهكتها الحرب المدمرة، وزادت وتيرة الاستعداء و«شيطنة» العقيدة الشيوعية للسوفييت بعد أن عانت أوروبا خلال العشرين سنة التالية للحرب وتعالت بها أصوات اليسار الاشتراكي ضد الرأسمالية المدعومة من أميركا.

فقامت المخابرات الأميركية بدعم عدد هائل من المفكرين والكتّاب والفنانين والموسيقيين لتسويق الأجندة الأميركية واستهداف الاشتراكية مباشرة، وتم تنظيم أعداد مهولة من المعارض والمؤتمرات والندوات والحفلات في أوروبا تحديداً ونشر أعداد لا تحصى من الكتب والمقالات المهاجمة للمعسكر السوفييتي.

لدرجة كان من بين الموجودين على كشف رواتب المخابرات الأميركية: إيرفينغ كريستول، سيدني هوك، دوايت مكدونالد، أشعيا برلين، ورموز ليساريين سابقين كإجناسيو سيلون وستيفن سبندر وريمون آرون وجورج أورويل صاحب كتاب مزرعة الحيوان والذي نشرت له الصحافة عام 1946 وحده 130 مقالاً سياسياً، ولضرب الفكر من الداخل قامت الوكالة بالترويج لما يسمى اليسار الديمقراطي كمناوئ آخر لليسار الراديكالي!

في عالم الدول الكبرى لا لغة سوى لغة المصالح ولا حق إلا حق القوة، وما فعلته الآلة الأميركية الإعلامية بكفاءة تُحسَد عليها – فعلاً- يفوق كثيراً ما حققته جيوشها وترسانتها الحربية، ويكفي أنها جعلت الدنيا تراها حاملة لمشعل الحضارة وأرض الأحلام وبلاد الحرية.

وتنسى أنها أبادت قرابة الربع مليون بريء في ناجازاكي وهيروشيما ومليون شخصٍ آخرين في حربٍ عبثية بفيتنام وقرابة نصف مليون عراقي في حرب أكذوبة أسلحة الدمار الشامل، واستطاعت أن تُسوّق لتقرير (دويلفر) .

كما ذكر ذلك جوني ميرشايمر في كتابه (لماذا يكذب القادة والزعماء) والذي ألقى باللوم على صدام حسين لترويجه وجود أسلحة إبادة لديه رغم أنّه لا يوجد في السجل العام أي إشارة من صدام بذلك بل على العكس كانت التأكيدات من دونالد رامسفيلد وديك تشيني بامتلاكهم أدلة «قطعية» لوجود تلك الأسلحة لتبرير الغزو الذي تم وأخرجه الإعلام الأميركي بصورة تخدم البروباغندا المرادة.

إنّ الإعلام الأميركي يعتمد كثيراً على صنع ما يُعرَف بـ«الخرافة القومية» بخلق «نرجسية» مرادة واختلاق «شيطان» متربّص لإقناع الشعب أن بلادهم دوماً على صواب والمعسكر الآخر دوماً على خطأ للحصول على تأييد تام في كل ما يقرره الساسة وبأنهم جزء من مؤسسة نبيلة يجب أن يتحملوا دفع كل الأثمان من أجلها ولا مانع إن تم قلب الأمور في ليلةٍ وضحاها كما حدث إثر الحرب العالمية الثانية لـ«شرعنة» عودة القتلة النازيين ليكونوا جزءاً من الجيش الألماني المعاد تأهيله لضمه لحلف الأطلسي في مواجهة المعسكر الشيوعي.

وتم تسويق أنّ من قام بمذابح الهولوكوست والإبادات العرقية هي مجموعة صغيرة من الجيش تُسمّى فيلق الحماية النازي SS وبأنّ بقية الجيش ذوي «أيادي بيضاء» وهي الأكذوبة التي فنّدها الكتّاب الألمان أنفسهم، ولكن أليس ذلك من عقيدة الحرب الإعلامية الجديدة؟ ألم يقل إرفنغ كريستول أحد عرّابي المحافظين الجدد ومؤسسيهم إنه: «توجد أنواع مختلفة من الحقيقة لأنواع مختلفة من الشعب»!

نحن هنا في الإمارات دولة مستهدفة في منطقة متوترة للغاية وتدور حولها أطماع الدول الكبرى ويشاطرها عفن التآمر تقاطع مصالح العديد من أحفاد «قطّاع الطرق» وعمائم السراديب والغرف المظلمة ما يوجب الحاجة لأن نميّز الأقنعة الزائفة لأصحاب الشعارات الرنانة وأن نعي تماماً المداخل الخفية التي يلجون من خلالها حتى لا تُمس لُحمة النسيج المجتمعي المحلي.

فحتى رسائل الواتساب غير المسؤولة والتي تُمرَّر بلا مبالاة أو بحسن نية أحياناً قد تقوّض الكثير وتساهم في خلق مدخل للأجندات الخفية، فحالياً لا شيء يحدث عبثاً والبعض يركّز على خلق ثقافة الخوف كما يقول مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق بريجنسكي لأنها «تحجب العقل وتزيد من حدة المشاعر وتجعل من الأسهل تعبئة الجمهور».

في مقابل هذا الاستهداف تبدو الحاجة ملحة لآلة إعلامية فعّالة مرتبطة بمراكز بحثية متخصصة تستطيع أن تقود الحروب الإعلامية الاستباقية لتحديد شكل النموذج الإماراتي الفعلي في المخيّلة الدولية وتتعامل بكفاءة مع الهجمات الشرسة التي نتعرض لها، أتحدث هنا عن حضور مؤثر وتدفق متزايد على الساحتين الإعلامية والثقافية العالميتين، فالتأثير في الرأي العالمي لن يكون كافياً له مناوشات ومعارك حسابات تويتر أو مقالات لا تُنشر إلا على الصعيد المحلي فقط.

بل تحتاج للحديث لتلك الشعوب بلهجاتها ووفقاً لأنماط التفكير التي تُقدّرها والأسس التي تبني عليها أحكامها، إن التأثير في الشعوب التي تشكّل الجزء الرئيسي من الرأي العام هو مفتاح نجاح أي رسالة يراد إيصالها أو مهمة يبتغى حشد التأييد الشعبي لها، كما قال نابليون بونابرت ذات يوم: «إن الرجال الذين غيّروا وجه العالم لم يصلوا إلى ما هم فيه بالتأثير في القادة بل بتحريك الجماهير، تلك هي ضربة العبقرية التي تغير الدنيا».