القراءة هي أساس المعرفة، وحسبنا أن أول آية نزل بها الوحي الأمين على رسولنا الكريم هي «اقرأ» كي يعلمنا أن القراءة خطوة في الطريق إلى عالم التميز والابتكار، ذلك أنه لا ابتكار دون ثقافة ولا ثقافة بغير قراءة وإلا ظلت منقوصة، لذا فإن الأساس يبدأ من القراءة المستمرة في كل الميادين والتخصصات، فهي الباب الواسع لفتح الأذهان والسير في دروب التميز والإبداع..
وهل يمكن أن تقيم تجاربك دون أن ترى تجارب الآخرين؟ كما أنه هل تستطيع أن تؤثر في البشرية بفكرة من دون أن تستعين بما وصل إليه من سبقك؟ وهل كان اختراع «ماركوني» للراديو بعيداً عما تركه له «جيمس ماكسويل» من اكتشاف الكهرومغناطيسية، و«هيرتز» من اكتشاف الموجات القصيرة..
فضلا عن «موريس» مخترع التلغراف وإشاراته التي اعتمد عليها «ماركوني» بادئ الأمر، إنها مسيرة واحدة تعددت فيها الشخوص غير أنها على الدرب ذاته، حتى في تاريخ الأمم والشعوب فإن فهم حاضرها لا يمكن أن يكون بعيداً عن استيعاب ماضيها واستخلاص العبر منه..
وهو ذاته أهم محددات الانطلاق إلى المستقبل، فسنن التاريخ واحدة وإن تغيرت الأحداث وتبدل الأشخاص، لذلك كانت المقولة العبقرية الجامعة للشيخ زايد طيب الله ثراه «من ليس له ماض فليس له حاضر ولا مستقبل»، وهل يكون هذا من دون القراءة المتأنية القادرة على الاستخلاص والفهم؟
إن توجيه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، بأن يكون عام 2016 عاماً للقراءة لأن القراءة هي المهارة الأساسية لجيل جديد من العلماء والمفكرين والباحثين والمبتكرين.
في تقديري أن هذا التوجيه يدخل في إطار الأمن الوطني باعتبار القراءة ليست شكلا من أشكال الرفاه الثقافي، غير أنها الطريق إلى النهوض والتمكين للأجيال الحالية والمقبلة على الصمود في ظل عالم قائم على اقتصاد المعرفة، لا مكان فيه للعشوائية والارتجال.
وإذا كنا نتحدث عن سنن التاريخ فإن المتتبع لها يدرك من الوهلة الأولى أن أمة لم تستند إلى العلم والفكر كتب لها أن تملك زمام أمرها، وأن قوة الأمم في تشييد البناء والإعلاء من قيمة الإنسان كان رقي الفكر وغزارة الإنتاج الثقافي والمعرفي مرافقة لها بل وسابقة عليها، بل إن بناء قوة بمعزل عن نمو الفكر كمن يبني جزيرة على رمال الشاطئ..
لذا كان بناء الإنسان شغل قيادتنا الشاغل باعتبار أن الاستثمار فيه له الأولوية الكبرى، فهو هدف التنمية والمشارك فيها والقادر على الحفاظ عليها، والقراءة وتحصيل العلم لا شك من أهم أدوات بناء الإنسان.
أعود فأقول إذا كان الأمر على هذا النحو فليكن عامنا هذا هو عام ترسيخ ثقافة الاطلاع والقراءة النهمة الواعية لدى أبنائنا مبكراً من مرحلة الروضة والمدرسة، وهنا أود أن أذكر ببعض المجالات التي ينبغي أن تطرق والدق عليها بانتظام، منها أهمية أن تقوم المدارس بتنظيم رحلات لطلبتها إلى المكتبات العامة بالدولة لتوثيق علاقة الطالب بالمكتبة..
وأن يعتاد على الذهاب إليها حتى تصبح ضمن الأماكن التي يهواها، فما من أحد ولد محباً للقراءة غير أنه سلوك يتم إكسابه له حتى يصل إلى مرحلة التعود ثم الاستماع به وهو من يقوم بتوريثه لمن بعده وهكذا دواليك، «إنما العلم بالتعلم».
كما يجب أن يتم إحياء كل الأنشطة المدرسية التي تتعلق بالقراءة، مثل إقامة مسابقات ثقافية ورصد جوائز للمتميزين، وعمل مكتبات متنقلة بين الفصول الدراسية، وتكريم الفصل الأكثر قراءة والطالب الأكثر استعارة من المكتبة، وكذلك فارس الأسبوع في القراءة، وإنشاء مكتبات افتراضية على وسائل الإعلام الجديد يمكن من خلالها تبادل الكتب والحديث عنها..
فضلا عن إقامة ورش عمل حول كيفية التعامل مع المكتبات الإلكترونية والاستفادة مما تقدمة، وعقد محاضرات في المدارس للكتاب والأكاديميين والإعلاميين عن أهمية القراءة وكيفية اختيار ما نقرأ وكيف نقرأ، كما يجب ألا نغفل دور المؤسسات الأهلية والخاصة وجمعيات المجتمع المدني في أهمية أن تقوم بدورها باعتبارها جزءا أصيلا من هذا الوطن..
كما أنها تنتفع بطاقاته البشرية المتميزة، وبذلك نحن نعد الطالب القادر على التعلم، وعندما ينتقل إلى المرحلة الجامعية فسيكون له شأن آخر لينتقل من القراءة العامة إلى القراءة المتخصصة في مجال دراسته ليبدع فيها، بعد ذلك يصبح جزءا أصيلا من سلوكه اليومي..
وسيكون هذا دافعاً لاستكمال دراساته العليا، فمن ذاق حلاوة المعرفة عز عليه أن يفارقها مهما طال به العمر، وبذلك نحن لا نبني أبناءنا فحسب، بل نحافظ على وطننا. وهل يكون عز الأوطان إلا بأبناء أشداء مسلحين بالعلم قادرين على الحفاظ على ما حققه وزيادة، تلك إذاً البداية وذاك المنتهى.