يقف البحر الأبيض المتوسط شاهداً على عمق العلاقات بين العرب وأوروبا، بين بلدان الضفة الشمالية للمتوسط وبلدان الضفة الجنوبية في مصر والمشرق العربي والمغربي العربي الذي لا يفصله عن أوروبا سوى 14 كم، هي عرض مضيق جبل طارق الذي يفصل بين المغرب وإسبانيا، سجل المتوسط جميع حلقات التبادل التجاري والثقافي وجميع حلقات الحروب والغزوات بين العرب وأوروبا في مختلف العصور، القديمة والوسيطة والحديثة على حد سواء، ومن خلال هذا التبادل الحضاري..
وذلك التدافع الإنساني الذي كان مسرحه البحر الأبيض المتوسط بين الدول والإمبراطوريات التي تقع على ضفتيه تشكل ما يمكن أن نسميه »المزاج المتوسطي« و»الطابع المتوسطي« في الثقافة والفنون والسمات الشخصية والطبائع المشتركة والثقافة المشتركة التي تجمع بين شعوب الضفتين، رغم اختلاف الديانات والمذاهب والحضارات.
الفاجعة والكارثة التي لحقت بالطائرة المصرية التي أقلعت من باريس إلى القاهرة، رغم الحزن والمرارة التي يشعر بها المصريون وذوو الضحايا..
وكذلك الفرنسيون وذو الضحايا منهم من جراء هذه الكارثة، إلا أن الكارثة كشفت عن تضامن دول المتوسط وشعوبها وحكوماتها قدمت العديد من أشكال الدعم اللوجيستي والجوي والبحري لمصر بالتعاون مع القوات المسلحة المصرية لكشف لغز سقوط هذه الطائرة وانتشال الحطام والضحايا والصندوق الأسود، تجاوزت بعض دول المتوسط، إيطاليا نموذجاً - الحساسيات الناجمة عن الأزمة التي ألمت بالعلاقات بين مصر وإيطاليا إثر مقتل الطالب الإيطالي جوليو روجيني، تظهر الكوارث بشكل عام كالزلازل والبراكين وكوارث الطيران بشكل خاص..
أفضل ما في العالم المعاصر من قيم مشتركة وأخلاق نبيلة وتقاليد حضارية، إذ تظهر مثل هذه الكوارث قيم الإنسانية المشتركة والتعاطف مع الضحايا وذويهم، وضرورة المساندة المعنوية والمادية وتجاوز التدافع السياسي والاختلاف في السياسات والرؤى.
ويتصدر المشهد الإحساس بقيمة وأهمية المصير المشترك والمسؤولية المشتركة الناجمة عن التداخل الذي يشهده العالم بين كل الدول وفي العديد من المجالات، وتلك التشابكات المتعذرة بين الشعوب والدول في عصر العولمة.
وللأسف، فإنه في السياق العادي لمجريات الأمور يشعر الإنسان المعاصر بالوحدة والاغتراب إزاء المجتمع الحديث وتجلياته التكنولوجية في مختلف جوانب الحياة، بل وتفكك الأطر الجماعية وتجذر الفردية وتطغى قيم الاستهلاك والقيم السلعية وقيم الاقتناء والتباهي، وتظهر كل موبقات العصر ومساوئه..
بينما في هذا النوع من الكوارث يستعيد العالم بعض القيم الكامنة في أعماقه وضميره لتقف شاهداً على ما يستطيع البشر وما تستطيع الإنسانية عامة إنجازه وتحقيقه، وقدرة البشر وقدرة إنسانيتهم على خلق وابتكار نموذج أخلاقي وإنساني جدير بهذا الاسم، بل جدير أن يظل ملازماً لنا في المسيرة الإنسانية نحو الأفضل والأكثر نبلاً.
لقد كشفت هذه الكارثة، لمن يعتبر، عن ضآلة حجم الإنسان في الكون رغم القوة والتفوق العلمي والتكنولوجي، ففي لحظة واحدة لا ندري على وجه التحديد هل استغرقت هذه اللحظة بضع ثوان أو بضع دقائق هوت الطائرة من ارتفاع سحيق في طبقات الجو إلى البحر وانقطع كل اتصال بالأرض..
ووجد الضحايا بتاريخهم وقصص حياتهم التي تمتد لعشرات السنين أنفسهم بلا مساعدة وبلا معاونة، وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع ظلمات البحر والأعماق، لم يودعوا أصدقاءهم وأقرباءهم وأبناءهم وأسرهم، ولم يلقوا نظرة الوداع على أحبائهم، كما لن يتمكن ذووهم ومحبوهم من إلقاء نظرة أخيرة عليهم، بل وقد لا يعرفون على وجه التحديد أو قد يعرفون بعد فترة طويلة ماذا حدث لهم وكيف حدث.
إن أخطر ما يواجهه الضحايا إثر السقوط العنيف للطائرة هو لحظات الرعب والفزع التي سيطرت عليهم والشعور بالوحدة في مواجهتها دون معين أو منقذ، إن هذه لحظات فارقة واستثنائية، والمؤسف أنها نهائية، ومهما كانت سعة خيالنا فإنها تقصر عن وصفها.
إن هذا المصير المفجع والفاجع، يدعونا إلى التواضع والتأمل واستخلاص الحكمة والعبرة، واستعادة القيم الأخلاقية المفتقدة في واقعنا وعالمنا، قيم التواضع والبساطة.
نحن والأوروبيون، بل نحن وجميع شعوب الأرض في مركب واحد، ينبغي ألا نسمح لأحد بالعبث فيه أو في الجانب الذي يخصه، فقد جمعت الطائرة المنكوبة بين المصري والفرنسي والسوداني والكندي والجزائري والسعودي والبريطاني، باختلاف ألسنتهم وألوانهم ودياناتهم.
ولا شك أن المصير المشترك الذي نواجهه كفيل بأن نواجه أعداء الإنسانية من الحمقي والجهلاء والإرهابيين في جبهة واحدة متماسكة، تسعى إلى إنقاذ البشرية من الشرور والهمجية والعنصرية، وأن نسعى جاهدين لإصلاح العالم وإنصاف المظلومين والضعفاء..
وأن نستطيع أن نخلق منظومة أخلاقية وقيمية مشتركة قادرة على الاستمرار في المحن والشدائد وفي الزمن العادي كذلك، إن هذا المصير المشترك يستوجب البحث عما يجمعنا كشعوب ودول، وعما يهدد أمننا وسلامتنا، وليس البحث عما يفرقنا ويعود بنا القهقرى إلى الوراء.
وأخيراً وليس آخراً، خالص العزاء والمواساة لأسر وعائلات ذوي الضحايا في مصر وفرنسا ومختلف البلدان التي ينتمي إليها هؤلاء الضحايا، وعزاؤنا لمصر والمصريين.