تروي لنا كتب التاريخ أنه عندما حصل الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما حاول ملك الروم أن يستغل الفرصة لزعزعة الدولة الناشئة فحاول أن يقف مع أحد الطرفين تحت شعار الانتصار للمظلوم وإسقاط الظالم وبقية شعارات الدجل التي تدغدغ مشاعر البسطاء وتجعلهم يرتكبون حماقات كبرى في حق أوطانهم دون وعي وتصوّر لما سيكون عليه مآل الأمور مستقبلاً.

فكتب لمعاوية: «علمنا بما وقع بينكم وبين علي بن أبي طالب، وإنّا لنرى أنكم أحقّ منه بالخلافة، فلو أمرتني أرسلتُ لك جيشاً يأتون إليك برأس علي» ففطن معاوية لمحاولة هذا الشيطان لجرّه لخيانة أهله وأرضه فكتب له: «أخّانِ وتشاجرا فما بالك تدخل فيما بينهما، إنْ لم تخرس أرسلتُ إليك بجيشٍ أوله عندك وآخره عندي يأتونني برأسك أُقدِّمه لعلي»!

ولأن الزمن يُكرِّر نفسه والأحداث تعيد مجراها بنفس المسارات تقريباً مع اختلاف الوجوه والأزمنة لا أكثر، فقد رأينا من انتكس من العرب في سنوات الفوضى هذه والتي سُمّيت «الربيع العربي» زوراً، فذاك الربيع الشيطاني لم يُنبت إلا الدم ولم تتمدّد به إلا أغصان الشر ولم يعلُ في أنحائه إلا نعيق غربان الموت، وعندما انقشع الغبار عن ميدانه تباينت الصفوف وعُرِفَ من غدر ومن وفّى، واتضح من حاك الأحابيل ضد أهله وبلاده ومن بذل ما يملك لحماية وطنه وتعزيز تماسكه.

وعندما كانت ألسنة المغرَّر بهم تلوك سُمعة «بلادهم هم» كذباً وزوراً كان بيض الوجوه والنوايا ممن هم عيال زايد «فعلاً» يحمون حياضه في الداخل و«يردّون الخبر الطيّب» في الخارج، لتستريح نفوسنا ونعلم أنّ هؤلاء الرجال هم القاعدة العامة وأنّ أولئك المروّجين للأكاذيب لا يعدون أن يكونوا سقط متاع و«زكاة طايفة»!

مازال التصديق يستعصي عليّ لـِمَا أقدم عليه أولئك المغرَّر بهم ويستعصي أكثر وأنا أراهم يستمرئون ويستمرّون في الإساءة والكذب وتلفيق الأمور على بلادهم وقيادتهم من بلادٍ لن تعترف بوجودهم إلا كلاجئين ومشردين إن جمّلنا الوضع أو كخونة لوطنهم إن قلناها بالتعبير الصريح.

ذاك الوطن الذي احتضنهم صغاراً وتنفسوا الحياة في أنحائه وحماهم مما يخافون ورعاهم خير الرعاية حتى اشتد عودهم وأنفق عليهم منذ طفولتهم وحتى أصبحوا رجالاً ينتظر أن يفخر بهم وبما سيصنعون لابقاء رايته خفاقة وسمعته محفوظة.

فإذا بهم يطعنونه من الخلف بخناجر مستأجرة ليصدموا كل أبناء بلادهم، فكيف يعقل أن يكون هذا هو رد الجميل وكيف تجرأوا على هذا الفعل الذي تأباه أخلاق الرجال وتشمئز منه نفوس الكرام، قبل أن يهربوا إلى الخارج، وحينها ظننا في محاولة استيعابنا لهول الصدمة .

وقلنا إنه ربما كان هروبهم خجلاً من سوء الصنيع وعظم الجُرْم وانتظاراً لأن يسامحهم كل من خذلوه وغدروه ويمنحهم فرصة أخرى للتكفير عن ذنبهم المخزي، فإذا بهم يصدموننا من جديد ويسلطون سياط أكاذيب من غرّر بهم على بلادهم ويروّجون كل مالا يخطر ببال من عظيم البهتان ومُلفَّق الشائعات، فيالله كم أخجلتمونا بين الناس بأنكم خرجتم من بيننا!

أي مستقبلٍ جميل في أحضان وطنكم قمتم باغتياله عن أطفالكم، وأي غدٍ مشؤوم تنوون جلبه لهم في بلادٍ هم غريبو لسانٍ ووجهٍ وهويةٍ فيها، أتركتم الكرامة والنعمة في بلادكم لتعيشوا مشرّدين طوعاً وعالةً على غيركم، إنْ قَطَع عنكم -من غَرَّر بكم وسيفعل بالتأكيد-دولاراته القليلة لن تجدوا إلا أرصفة الطرقات تؤويكم وأطفالكم حيث الجوع والمرض والضياع والمستقبل المظلم، فبأي عقل تفكرون؟

وأي صفقةٍ خاسرة قد عقدتم مع شياطين الأنس فخسرتم خلالها كل شيء حتى نظرة الناس لكم، يا لله كم أرى هذه الآية الكريمة تنطبق عليكم: «قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير»!

لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يعيش إنسان بعيداً عن تراب أرضه ونسمات هوائه وقسمات وجوه أهله ونبرات أصواتهم، إنْ كابر اليوم فلن يستطيع في الغد، وإنْ تمنّع هو فما ذنب أطفاله وأهله الذي جعلهم مشردين تتقاذفهم الطرقات دون سبب، ووجدوا أنفسهم يقتاتون على أُعطيات أصحاب المطامع وفتات موائدهم بعد أن كانوا ينعمون في خيرات بلادهم دون مِنّةٍ من أحد!

سعدنا جميعاً في الأيام الماضية بعودة الكثيرين من المغرّر بهم وتوبتهم وعودتهم، وأكْبَرْنا اتساع مساحات البياض في قلوب ولاة أمرنا وهم يؤونهم إلى أحضان الوطن من جديد بعد اعترافهم بعظيم خطئهم في حق بلادهم وأهلهم وقادتهم.

وتابعنا تفاصيل تنبيهاتهم من أحابيل شياطين التنظيم والمؤامرة التي كانوا يجتهدون ليلهم و نهارهم لاتمامها وزعزعة استقرار البلد من خلالها واستغلال فوضى الربيع العربي للمساومة والضغط على القيادة ومحاولة خلق وزن لتنظيمهم قبل أن ينقلب السحر على الساحر وتنزع الأجهزة الأمنية اليقِظة نبتتهم الشيطانية من جذورها.

كانت الرسالة من ولاة الأمر وفقهم الله واضحة: مازال وطنكم فاتحاً ذراعيه ومازال قادتكم يعتبرونكم أبناءً لهذا البلد رغم أخطائكم الفادحة، ولازال بالإمكان فتح صفحة جديدة شريطة أن تُحسنوا العودة كما أسأتم الخروج.

فالاعتذار الصادق والتبرؤ من التنظيم الشيطاني وكشف خيوط مؤامرته التي كانوا طرفاً بها وتوعية الناس بأخطارها ومداخل أصحابها ووسائلهم في التغرير بالشباب هي الخطوة الأولى على أن يتبع ذلك إعلان البيعة الصادقة والوحيدة لولي الأمر الشرعي وأخذ المواثيق بالدفاع عن الوطن والمنافحة عنه، حينها لن تكون عودتهم وأهلهم وأطفالهم إلى الوطن فقط، بل ستكون بكل المقاييس هي العودة إلى الحياة!