لا شك أن ما تربينا عليه في مجتمعاتنا العربية يلعب دوراً رئيسياً في تكوين شخصياتنا وبلورتها بدءاً من الطفولة حتى الشيخوخة، وهو ما لا يتعارض مع العادات والتقاليد التي ارتمينا في أحضانها منذ النشأة والصغر، إنها عادات وتقاليد تنطوي على الجانبين المشرق والباهت، إلا أن الباهت منها أو في عبارة أخرى؛ الرديء والمتوارث من دون وعي وإدراك، هو ما يلح عليّ مراراً للإشارة إليه وتسليط الضوء عليه علّني أجد ضالتي فيما أنشده وأتوق إليه، خاصة أننا اليوم لا نستطيع مواكبة الغرب الذي يخطو بخطى سريعة نحو الرقي والتقدم، بعد أن نفض عنه كل الأفكار والتقاليد البالية التي مازالت تتملك عقولنا وتهيمن عليها، فتودي بحياتنا إلى هلاكٍ مبكر بما تحمله من معتقدات سلبية لا تحرز تقدماً بأي حال من الأحوال على المستوى الشخصي أو المجتمعي، وهو التيار العكسي للفكر الغربي المتميز.
نتمسك اليوم بالعديد من تلك العادات السلبية التي من شأنها أن تحرز تأخراً في مجتمعاتنا العربية وليس تقدماً، مؤمنين بها، وراضين حتى بجذورها الواهية، وجذوعها الخاوية، وتربتها الهشة التي ما إن أتتها سيول التنوير إلا عصفت بها وكأنها لم تكن، أو على أقل التقدير كانت شيئاً مذكوراً، قد يجعلها البعض حائط مبكى ينوحون على زوال تلك العادات، ويبكون مخافة الخوض بالجديد، على عكس ما يتبعه الغرب حالياً من مناهج تطويرية ومنطقية من شأنها أن ترفع من مستوى المجتمع وتسهم جدياً في تطوره، إن المقارنة بين عاداتنا وتقاليدنا العربية والعادات والتقاليد الغربية تحتاج إلى باعٍ آخر للتطرق إليها، فهي ليست بالموضوع الهين أو البسيط، فكما ذكرت آنفاً؛ لدينا العديد من العادات والتقاليد الجيدة في مجتمعنا العربي، وهناك السيئ منها أيضاً، والأمر كذلك بالنسبة إلى المجتمع الغربي، ولكن لمَ لا نصطف ما يناسبنا منها ونطبقه؟! فالاعتراف بالحق فضيلة، وإن كان لديهم ما ينفعنا ويسهم في تطورنا على الصعيد الإنساني والاجتماعي والمهني والاقتصادي، فلم لا نتشبث به ونتبعه؟ فمن المتعارف عليه أن صلاح العمل من صلاح الإنسان، وإن كنا نتطلع إلى إحراز تقدمٍ إيجابيٍ سريع وملحوظ فلا بد لنا من إصلاح النفس البشرية أولاً.
إن المعتقدات الإنسانية هي المحور الرئيس للحياة وبقائنا عليها، فلو كانت تلك المعتقدات إيجابية كان لنا خير ما لديها، وكذلك الأمر ينسحبُ على ما توارثناه، حتى في تلك العادات التي لم تتحرر منها نفوسنا قبل عقولنا، وإن كنا لا نؤمن بجزئيات منها، ناهيكم عن أكثرها، فلو أخذنا من تاريخنا ما إن عملنا به كان صداه على أنفسنا قبل أن نصدره إلى غيرنا، فكان لزاماً وحقيقاً علينا أن نتناول صوراً من ثقافات وأفكار غيرنا، تضيف إلى حياتنا ما يكون نفعها أكثر من ضرها.
إن ما تربينا عليه في مجتمعنا العربي بُني في المقام الأول على «التضحية»، والتي بدورها تستدعي قلقاً وجهداً وخوفاً شديداً من المستقبل وعواقبه، ولم يكن الخوف يوماً منصباً على أنفسنا، بل كان على الدوام منصباً على أولادنا ومستقبلهم، على الرغم من أن هذا القلق وتلك المخاوف تنتقل وبمنتهى السلاسة إلى قلوب أولادنا، الأمر الذي يجعلهم متأثرين بهذا الإحباط المنقول وغير المبرر، وما مردُّ ذلك إلا إلى ما قيدوه به بعض السابقين ممن رفضوا أن يخرجوا من عباءة ضيقوها على أنفسهم، فلم يستطيعوا نزعها، ولا حتى استبدالها، وجعلوا لأنفسهم حدوداً هم بنوها، وأوهاماً هم خلقوها، فرفضوا أي جديد من شأنه أن ينسف أخطاء ما كان عليه السابقون، ويجتث أفكاراً لم يعد لها قيمة مزجاة إلى حاضرٍ له قواعده ونواميسه.
فوجدنا أنفسنا بعد استفاقة عقولنا وقد فقدنا نسغ الحياة، حتى أصبح ما نصبو إليه أشبه بالوهم الذي نساق إليه على الرغم منا، من دون حتى الإيمان بقدراتنا، أو حتى بأهدافنا، فما عشنا عليه من وهم الرضا بالحال جعلنا في تيه أشد سطوة وعنوة وألماً من تيه بني إسرائيل، فمضت بنا الأيام تترى، تقلبنا ذات اليمين وذات الشمال، وكلنا باسط سعيه فيها، فلا الماضي استفدنا منه لنسقطه على حاضرنا، كما وخسرنا واقعنا بآمال واهية نخشى نحن تحقيقها.
لقد تناسينا أننا لا حول لنا ولا قوة في تغيير الأمور، وبتنا نناطح أنفسنا على مدار اليوم والساعة والثانية لنفكر في المستقبل والتخطيط له في إطار إيمان بأن هذا هو الدور الذي خُلقنا من أجله، كما لو كان الهدف من الحياة هو الشقاء والحيرة والقلق، أليس من شأن تلك الأمور التي نعيشها يومياً أن تهلك إنساناً؟! أليس من شأنها أن تسبب إحباطاً؟! أليس من شأنها أن تضعف حماساً؟! أليس من شأنها أن تطفئ روحاً؟! أليس من شأنها أن تحرق طموحاً أو تكبت وجداناً؟!
لا شك أن الموت قدر، ولكن الحياة وتر، كلما عزفنا عليه، كان للحياة نغم، لا بد أن تتغير ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا لنستمع إلى لحن الحياة وندرك معانيه ومغزاه، هنا فقط يكون بمقدورنا السير في ركاب الفكر المتقدم والمتحرر من القيود البالية التي طالما هيمنت على عقول الكثيرين الذين إن جاز التعبير يتقدمون نحو موت سريع بأنفسهم، إنه الموت المعنوي وليس البدني، فساعة الموت بيد الرحمن وحده.