في عالم الخطابة هناك ما يشبه الصراع الدائم بين النص المكتوب والكلام المرتجل التلقائي، هذه قضية لها بالفعل أهمية كبري في الخطاب السياسي وكذلك الخطابات الدينية والإعلامية والثقافية وحتى الرياضية، ولايزال الجدل حولها مستمراً دون حسم النتيجة بشكل كامل لصالح أي طرف، وأصبح لهذه القضية أهمية مضاعفة بعدما كثرت في الفترة الأخيرة وعلى مستويات عديدة في أرجاء العالم المطالبات بحتمية إصلاح الخطابات النوعية كخطوة حيوية لإجراء إصلاحات تحديثية في مجتمعات الدول المستهدفة خاصة على صعيد الشرق الأوسط.

وقد بات إنجاز تلك المطالبات أمراً ضرورياً من وجهة نظر المطالبين بها للتحديث والتطوير ومكافحة الإرهاب وإعادة التوازن بين الكتل المجتمعية الداخلية من جهة وإصلاح العلاقات وتطبيعها بين أطراف العالم من جهة أخرى، ولا شك في أن هذه المطالب لها وجاهتها وأهميتها بغض النظر عن الجهة الطالبة على الصعيدين الإقليمي والدولي، فمن الطبيعي أن تجديد دماء وشباب وحيوية المجتمعات يتطلب مثل هذه المراجعات الدورية لتجديد الخطابات النوعية، ويبقى السؤال كذلك؛ من هي الجهة التي يجب أن تتحمل مسؤولية إصلاح هذه الخطابات، فهل يترك كل مجال لأهله لإصلاح خطابه وتطويره بالشكل المناسب، بمعنى هل يتحمل الإعلاميون وحدهم مسؤولية إصلاح الخطاب الإعلامي، وهل يتحمل رجال الدين وحدهم مسؤولية إصلاح الخطاب الديني، وهل يتحمل الرياضيون وحدهم مسؤولية إصلاح الخطاب الرياضي...؟

من حيث المبدأ لا شك في أن اضطراب الأوضاع داخل أي مؤسسة كالمؤسسة الإعلامية أو المؤسسة القضائية أو المؤسسة الدينية أو التشريعية على سبيل المثال لا يمس أوضاع العاملين فيها فحسب وإنما يضرب بقوة في كل أركان المجتمع، وعند هذا الحد يصبح الدفاع عن هذه المؤسسات واستقلالها وإصلاحها أمراً مجتمعياً يحتم مشاركة كل فئات المجتمع مشاركة فعالة حفاظاً على كيانها ومن ثم توازن المجتمع. وإذا كان توازن المجتمعات يتحقق بتوازن المؤسسات المجتمعية، فلا شك في أن المؤسسات الدينية وما يرتبط بها من خطاب مؤثر بات يحظى بأهمية خاصة لما له من تأثيرات ضخمة على الرأي العام وتكوين اتجاهاته، بل لقد صارت المؤسسة الدينية ودورها الخطير في بعض الدول أقوى من بعض مؤسسات الدولة ويحسب لها ألف حساب بشكل بات يتطلب فرض ضوابط وقواعد ومواثيق شرف لضمان تأديتها لدورها بدون تجاوزات أو خروقات.

ولعل التجاوزات في بعض الدول العربية حاليا تستوجب معالجة حصيفة من نوع خاص، تصلح وتطور بالفعل بدون أن تنتقص من قدر المؤسسة الدينية ومكانتها، فهناك تجاوزات وهناك أخطاء بدون أدنى شك من بعض الأطراف، وإذا كان الحديث قد تزايد في الفترة الأخيرة عن توجهات بضرورة إصلاح المؤسسات الدينية وتطوير خطابها، فذلك أمر ضروري في ضوء أن الدين هو ضمير الأمة ويلعب دوراً كبيراً في زيادة الوعي ودرجة الاستنارة والمعرفة لدى الأفراد والشعوب، وعند هذا الحد يصبح الدفاع عن إصلاح الخطاب الديني ودوره واجب الوطن والمجتمع كله.

فالإصلاح في هذا المجال لا يخص العاملين فيه أو القائمين على أموره وحدهم، بالتأكيد عليهم يقع العبء والدور الأكبر في هذه المهمة، وإنما هي كذلك حق لكل المواطنين ولن يتسنى لهم ذلك إلا بالدفاع عن هذا الحق المجتمعي.

فإذا كان الحديث عن تطوير وإصلاح الخطابات النوعية الدينية والسياسية والثقافية يكتسب أهمية كبرى متساوية إلا أن تطوير الخطاب الديني عموما بات يكتسب أهمية خاصة لما له من تأثير بالغ على كل شرائح المجتمع لدرجة أن العديد من النخبة الثقافية يرون أنه مفتاح فعلي لإصلاح المجتمعات ككل، وفي هذا السياق قد يكون من المهم متابعة القضية أو المعركة الدائرة في مصر حاليا حول «خطبة الجمعة المكتوبة والموحدة» بدلاً من تلك المرتجلة.

وبين القبول والرفض يمكن القول ان عوامل عديدة داخل مصر على الأقل تزكي وتبارك هذه الخطوة الشجاعة التي أقرها وزير الأوقاف بأن تكون خطبة الجمعة مكتوبة وذات موضوع موحد باعتبارها خطوة في الطريق الصحيح لتصويب الخطاب الديني وتخليص مصر من مظاهر التطرف والتشدد، ومع كل الاحترام والتقدير للآراء التي تعارض هذه الخطوة على أساس أنها قد تقتل الإبداع والحرية، إلا أن من الواجب الإشارة إلى تلك الفضائح والكوارث والتجاوزات التي تحدث في خطب الجمعة في الزوايا وما يمكن تسميته بمساجد «بير السلم» والمساجد البعيدة عن سيطرة الدولة في النجوع والكفور والقرى النائية، بل وفي مدن مختلفة على مستوى الجمهورية حيث الألفاظ والآراء المنفرة والشاذة التي يرفضها كل عقل ودين.

وليس خافياً أنه داخل أسوار هذه الأماكن وعلى أيدي بعض «الأئمة» المشبوهين- وبعضهم من أصحاب الحرف ولا حظ لهم من التعليم- عرفت مصر التطرف والتزمت وصولاً إلى أبشع أشكال الإرهاب، وغالباً فإن ما فعله وزير الأوقاف يتفق مع صحيح الدين الذي يعلي قيماً ومبادئ معروفة على رأسها فقه الضرورة الذي يرى أن الضرورات تبيح المحظورات وأن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة.