العنف غير المسبوق والتجاوزات التي لم تعد مألوفة في السلوك الإنساني منذ قرون عدة التي صاحبت ظهور تنظيم داعش بين ظهرانينا تدعو للتأمل في الجذور الفكرية التي تسمح بظهور تنظيمات كهذه تنتمي في سلوكياتها لعصور بعيدة القدم.
هناك من يرى أن سلوك هذا التنظيم قريب الشبه بسلوك فرقة الخوارج التي ظهرت في النصف الأول من القرن الهجري الأول، وهناك من يرى أن ما يقترفه هذا التنظيم يعيد للأذهان ما كانت فرقة القرامطة تقترفه حين ظهرت في النصف الثاني من القرن الهجري الثالث.
وبغض النظر عما إذا كان هذا التنظيم قد تأثر فعلاً بأفكار هؤلاء أو هؤلاء ومع الإقرار بأن الماضي بثقافته وأحداثه وشخوصه لا يزال يحيا وبقوة في عقول البعض وقلوبهم إلا أن البحث في دفاتر هذا الماضي ليس المدخل الأفضل لتفهم ظواهر الحاضر.
تأريخ الشرق الأوسط حافل بالأحداث الجسيمة التي كان سيدها العنف الدموي إلا أن من الصعب تبرئة الحاضر تماماً من المسؤولية عن ظهور حركات بهذه الدرجة من الوحشية، فهناك من له مصلحة في ظهور تنظيمات إرهابية كداعش تلعب دوراً لفترة زمنية محدودة على مسرح الأحداث في بعض المناطق الملتهبة من العالم كمنطقة الشرق الأوسط.
كما أن هناك عورات عدة تعتري النظام العالمي السائد وثغرات كثيرة وكبيرة في بنيته أبرزها اتساع الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وفي جميع المجالات لم ترتقِ معالجات المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة إلى مستوى خطورتها في الحاضر وكارثية مآلاتها في المستقبل.
على الرغم من أن ظاهرة الإرهاب بدأت تحظى بالاهتمام في النصف الثاني من القرن العشرين حين بدأت بعض الحركات والتنظيمات السياسية تلجأ للعنف لتحقيق أهدافها في ظل أوضاع معقدة تحكمت بصناعتها العلاقات الدولية المتشنجة في حقبة الحرب الباردة، إلا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقلت هذا الاهتمام إلى طور جديد لدى الغرب.
وعلى رأسه الولايات المتحدة بعد أن بدأت مدنه تشهد ويلاته من جهة وبعد أن ظهر بمظهر جديد مختلف عما كان معروفاً من قبل من جهة أخرى. فهذه الظاهرة قد بدأت تحظى بدراسات مكثفة على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية. فعلى مستوى الدراسات الاجتماعية والنفسية.
وجد المختصون أنفسهم بمواجهة العديد من الأسئلة التي أثيرت حول مختلف جوانب هذه الظاهرة وذلك للحصول على إجابات تساعد على صياغة نظرية لتفسيرها ووضع استراتيجية مواجهة لا تستند إلى معالجة تداعيات العمليات الإرهابية بل استباقية تحول دون حصولها من غير إخلال كبير بمنظومة القيم التي تكفل الحقوق والحريات للأفراد والجماعات.
فالعمليات الإرهابية التي بدأت تزداد عددياً وتتعقد نوعياً تلقي ظلالاً من الشكوك حول جدوى الاستمرار بالتمسك بالوسائل والأساليب المعتمدة لمواجهتها.
والحقيقة أن الاستنتاجات التي استخلصت من الدراسات حول هذه الظاهرة تثير مخاوف شديدة عما يمكن أن يحدث في المستقبل مما دفع عدداً من الدول إلى توظيف المزيد من الموارد البشرية والمادية لمواجهتها. فقد لوحظ من قبل المعهد الدولي لمكافحة الإرهاب أن هناك عدداً قليلاً من الهجمات الإرهابية مسؤول عن النسبة الأكبر من الضحايا.
وهو ما يدعو ليس إلى توقع حصول عمليات إرهابية تلحق أضراراً بليغة سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً تهز كيان المجتمعات فحسب بل توقع هجمات على مستوى أشد خطورة من ذلك يستخدم فيها أسلحة كيميائية أو بيولوجية أو نووية.
اعتمدت الدراسات النفسية المبكرة لظاهرة »الإرهاب« نظرية التحليل النفسي للتعرف على دوافع اعتناق أفكاره والانخراط في تنظيماته والاستمرار فيها عبر التحري عن قضايا تتعلق بالنشأة غير السوية وبالتشويه الذي يعتري التكوين الشخصي للإنسان التي غالباً ما تكون بارزة في السير الذاتية للإرهابيين..
والتي تبين أنها لا تساعد حقاً على شرح هذه الظاهرة. الشباب يتحول إلى الإرهاب بطرائق مختلفة في أدوار مختلفة وكذلك لأسباب مختلفة، الحالة النفسية ليست عاملاً حاسماً في تفسير السلوك الإرهابي، إذ أن معظم الإرهابيين ليسوا مرضى نفسيين.
وقد توصلت هذه الدراسات إلى أنه ليس هناك مواصفات يمكن من خلالها رسم صورة أو وضع معالم شخصية لتعريف »الإرهابي« بمعنى أنه ليس هناك ظروف نفسية واحدة لهؤلاء الإرهابيين، لذلك اتجه معظم الباحثين نحو مناهج أخرى.
آيديولوجية تنظيم داعش، إذا جاز لنا القول إن له آيديولوجية حقيقية، تستند إلى معتقدات أضفيت عليها قدسية لا تتقبل النقاش تبرر السلوكيات المرعبة لمنتسبيه دون إعارة أدنى اهتمام لما يترتب على هذه السلوكيات من سمعة سيئة تلحق بالتنظيم نفسه، مما يدفع للتساؤل حول ما إذا كانت أنشطته الإرهابية تخدم قضيته! أم أنها تهدف لإحداث الشروخ وزرع الفتن لإذكاء الحروب الداخلية في المجتمعات التي تحظى باستضافة عملياته. التنظيم يستهدف كل ما يعتبره متعارضاً مع ما يؤمن به من قيم ومفاهيم..
وإذ يجد نفسه عاجزاً عن استهداف الدولة ومؤسساتها وشخوصها لا يجد ضيراً في توجيه عملياته ناحية المجتمع إذ أن معظم ضحاياه مدنيون يضمون أطفالاً ونساءً وشيوخاً لم يسبق لهم أن ناصبوه العداء ولا يمتلكون سلطة التضييق عليه أو استهدافه ولا ناقة لهم ولا جمل في صناعة سياسات وتنفيذ إجراءات يرفضها التنظيم ويتمرد عليها.