من المفيد أن ندرس تجارب النجاح، ونستخلص منها العبر والدروس، فالعاقل هو من اتعظ بغيره، وإذا أردنا أن نلخص تجارب الآخرين الاقتصادية الناجحة، فإننا يمكن أن نقول بقدر من الثقة: إن معظم النجاحات المتحققة قد اعتمدت على محورين أساسيين، وهما زيادة معدلات الاستثمار السنوي من ناحية، والتوجه نحو التصدير من ناحية أخرى، وكل من هذين الاتجاهين يساعد الآخر ويدعمه، ولا بأس من قليل من التفصيل.

حتى الستينيات من القرن الماضي كان العالم الصناعي فى أميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان (وإن لم تستعد اليابان كل قدراتها إلا بعد ذلك) يمثل الدول المتقدمة، فى حين كانت بقية دول العالم فى أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية(إلى حد ما) فى عداد الدول الفقيرة، أو ما أطلق عليه الدول النامية، ومنذ سبعينيات القرن الماضي وخاصة بعد الثمانينيات بدأ يتغير هيكل الاقتصاد العالمي، بحيث نجحت مجموعة من الدول الآسيوية بوجه خاص فى تقديم نموذج مختلف عن بقية الدول النامية.

وهكذا جاء ظهور مجموعة من الاقتصادات الصاعدة بدءاً بما عرف بالنمور الآسيوية (كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة، وهونج كونج)، حيث حققت هذه الدول نجاحاً باهراً فى نمط يقوم على التصنيع من أجل التصدير، وبعد ذلك لحق بهذه المجموعة الآسيوية عدد آخر من الاقتصادات الصاعدة فى إندونيسيا وماليزيا وتايلاند وفيتنام.

وجاء بعد ذلك ظهور العملاق الصيني، والذي يمثل حالياً ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وإن ظل متوسط الدخل الفردي بها متواضعاً بالنظر إلى ارتفاع عدد السكان بها.

إذا كانت هذه كلها مظاهر للنجاح، فإنها تختلف في ما بينها، فبعض الدول كثيفة السكان مثل الهند والصين، والبعض الآخر دول صغيرة تكاد لا تزيد على حجم المدينة (هونج كونج)، وإذا كانت هذه الدول تختلف في ما بينها من حيث الحجم، فما هي العوامل المشتركة التي تجمع بينها؟

لعل أهم هذه العوامل المشتركة أمران، الأول هو أن جميع هذه الدول- بلا استثناء- خصصت نسبة عالية من الناتج الإجمالي للاستثمار في حدود ثلاثين في المئة سنوياً، ولفترة مستمرة تكاد تقترب من ثلاثة عقود،أما الأمر الثاني المشترك فهو أنها جميعاً انفتحت على التصدير، فالنمور الآسيوية بدأت بالتصدير .

ثم جاء العملاق الصيني، الذي أخذ بالاقتصاد المغلق طوال فترة ماوتسي تونج، لتصبح أكبر مصدر، وكذا الهند التي أخذت لعقود بسياسة الإنتاج للسوق المحلية، فإذا بها هي الأخرى تنفتح على التصدير وبقوة، وهكذا يبدو أن القاسم المشترك للنجاح لدى هذه المجموعة من الاقتصادات الصاعدة هو أمران: معدلات مرتفعة من الاستثمار بنسبة تقترب من 30% من الناتج الإجمالي، وتوجيه الصناعة في جزء كبير منها إلى التصدير.

هل يمكن أن نستخلص بعض النتائج من هذه التجارب؟ هذا هو السؤال، والجواب هناك درسان يمكن استخلاصهما من هذه التجارب الناجحة؛ الدرس الأول أنه لا بد من العمل بكل ما يمكن لرفع معدل الاستثمار ليصل إلى 30% من الناتج الإجمالي، وبالنظر إلى انخفاض معدلات الادخار فى مصر على سبيل المثال إلى نحو 15%، فإنه من الضروري العمل على جذب الاستثمارات الأجنبية بكل قوة، ولكن الاستثمار لا يقتصر على إنشاء البنية الأساسية من طرق ومحطات كهرباء وموانئ، وغيرها من أشكال الاستثمار الصلبة، والتي تحتاج عادة موارد خاصة بالعملات الأجنبية، فهناك أشكال ضرورية من الاستثمار الناعم الضروري لتحقيق التقدم.

من ذلك مثلاً احترام المعايير والمواصفات الصناعية فى الإنتاج، فهناك معايير ومواصفات دولية، وهذه ضرورية لقبولها فى العديد من البلدان، وقد نجحت تركيا فى غزو السوق الأوروبية لمجرد أنها ألزمت الصناعة المحلية بالأخذ بالمعايير والمواصفات الأوروبية، وإذا نظرنا إلى مصر مجدداً كونها نموذجاً تطبيقياً لهذه الفكرة، فإن المنافس الأكبر للمصدر المصري هو السوق المصرية نفسها.. كيف؟

ليس صحيحاً أن السلع المصرية لا تغزو الأسواق العالمية لارتفاع أسعارها، بل الحقيقة أنها غير مقبولة لأنها لا تتفق مع المعايير والمواصفات الدولية، فالمنافس الحقيقي للمصدر المصري هي السوق المصرية التي تقبل أي منتج بصرف النظر عن اتفاقه أو غير اتفاقه مع المواصفات العالمية.

أحد مظاهر التقدم هو الأخذ- بجدية- لضرورة الالتزام بالمعايير والمواصفات العالمية، ومن هنا فقط تبدأ رحلة الاندماج في الاقتصاد العالمي المعاصر، وعندما أتحدث عن الاستثمارات الناعمة، فإنني أود أن أؤكد أن الاستثمار ليس كله مباني وآلات ومعدات، بل هناك مجالات أخرى مهمة تحتاج إلى نوع من الاستثمار الناعم المتمثل في احترام القواعد والمواصفات للأداء، وهناك الكثير مما يمكن إعداده، ولا يحتاج إلى آلات ومبان وطرق، ولكن مجرد أسلوب مختلف في الأداء.

هذه الأساليب إذا تم تعميمها هي نوع من الاستثمار الناعم الذي يقدم خدمة للاقتصاد لا تقل عن بناء المدارس أو المصانع.