يواصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، سياساته البراغماتية على أكثر من صعيد داخلي وإقليمي ودولي، وتجاه أكثر من قضية، باتت تمثل في حد ذاتها نموذجاً مثالياً لهذا الشكل من الممارسات السياسية النفعية، وقد تكون هذه الممارسات نفسها أيضاً سبباً كافياً لتوقعات بتراجع حدة المواجهات الراهنة في العلاقات التركية الأوروبية، أو وقوفها عند حد معين، دون مزيد من التصعيد.
وأغلب الظن أن جانباً كبيراً من هذه المواجهات قد أحسن الإعداد والترتيب له، في الوقت الذي يسعى فيه أردوغان لحشد أكبر عدد ممكن من أنصاره داخل تركيا وخارجها، لضمان تمرير مشروعه السياسي الكبير المقرون بتعديلات دستورية غير مسبوقة في بلاده.
وليس أدل على ذلك، من أن مؤشرات الدفء بدأت تظهر في الآفاق مرة أخرى بالنسبة للعلاقات الألمانية التركية، بعد فترة توتر سريعة، وأبرز تلك المؤشرات قبل أيام، اتضحت في لقاء وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل، بنظيره التركي جاويش أوغلو بالعاصمة برلين، في محاولة لإعادة أجواء الثقة بين البلدين.
ولا شك في أن الجهود الواضحة لوزير الخارجية الألماني لتهدئة التوتر، يمكن أن تكون لها علاقة باتفاقية اللاجئين المبرمة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، التي قلصت عدد اللاجئين المتدفقين على أوروبا، وبالقطع، تدرك أنقرة جيداً أن الاتفاقية تعتبر ورقة ضغط في يدها.
خاصة بعدما حذر أردوغان الاتحاد الأوروبي، من أنه قادر على فتح الحدود التركية أمام اللاجئين صوب الاتحاد الأوروبي، وهم يدركون خطورة ذلك، ففي عام 2015، تدفق حوالي 850 ألفاً من المهاجرين واللاجئين على أوروبا قادمين من تركيا، بينما في 2016، انخفض عددهم إلى 173 ألفاً فقط.
وتزداد مخاوف الأوروبيين بشكل عام، وألمانيا بشكل خاص، من أن يؤثر التوتر بين الطرفين في اتفاقية اللاجئين، بتزايد عدد المهاجرين واللاجئين، كورقة رابحة في يد الرئيس التركي، بينما ترى أطراف أوروبية أن المكاسب الحالية لتركيا من الاتفاقية، تفوق مكاسب الاتحاد الأوروبي منها، لذلك فالأتراك لديهم مصلحة كبيرة للتمسك بالاتفاقية، لأنهم لا يمتلكون بدائل أخرى.
ولو أنهيت الاتفاقية المبرمة بخصوص اللاجئين، فإن الكثير من الأمور ستتعرض للخطر في تركيا، لأن الأمر لا يقتصر فقط على حصول أنقرة على أربعة مليارات يورو من أوروبا، ولكن أيضاً تسهيل حصول الأتراك على التأشيرات إلى أوروبا، هذه النقطة مهمة للحكومة التركية، لأنها ستعتبرها نجاحاً كبيراً لسياساتها، ومن ثم، فإن الطرفين لن يغامرا بالتضحية بهذه الاتفاقية، مهما بلغت درجات الشد والجذب.
ويعكس المشهد الراهن حقيقة أخرى، تتمثل في سعي أردوغان لكسب أصوات الجالية التركية في ألمانيا خاصة، والدول الأوروبية عموماً، لحسم التعديلات الدستورية لصالحه، حيث يتمتع بالفعل بشعبيه لها عدة أسباب، بعضها غير مفهوم ولا يحسب بالمنطق، بينما ترفض دول أوروبية توجهاته، وتراها ديكتاتورية، وكذلك تعترض على تحويل أراضيها لمنصات دعاية سياسية لحزب العدالة والتنمية.
ومع إدراك أردوغان لهذه الحقائق على أرض الواقع، فإنه لن يخسر شيئاً، بل سيربح الكثير، ففكرة المواجهة مع الخارج لأسباب وطنية أو قومية، كثيراً ما تؤتي أكلها، وهذا ما يفعله «الثعلب التركي»، حيث يعطي للكثير من الأتراك في الخارج، الشعور بأنهم أقوى وأعظم، ويعتبر الأتراك المقيمين في أوروبا إخوة وأخوات ينتمون إلى تركيا، وأصواتهم مهمة في العملية السياسية.
وبحسب لغة الأرقام، فإن من بين الأتراك الذين يعيشون في ألمانيا، يوجد نحو 1.4 مليون شخص يحق لهم الإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء على الدستور أبريل المقبل، فهؤلاء يحملون جنسية تركيا فقط، أو أن لديهم جنسية مزدوجة.
ومن شأن أصواتهم أن تكون حاسمة في نتائج التصويت، حتى وإن جاءت نسبة مشاركتهم غير كبيرة، مثلما حدث في الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2015، حيث كانت النسبة حينها حوالي 40 في المئة فقط، وغالبية الناخبين الذين يواظبون على المشاركة في الانتخابات التركية في الخارج، يدعمون النهج المحافظ لأردوغان.
إلا أن الحماس لأدروغان يشمل الشباب أيضاً، وهم يدركون أن السياسة في أوروبا لا تخاطبهم على نحو صحيح، كما أن الشعور بعدم الانتماء يدفع الأفراد لدعم أحزاب كالعدالة والتنمية، لأنه يمنحهم الشعور بالعظمة والعزة والانتماء.
بينما ينظر الكثير من أتراك الخارج لأردوغان، نظرة إيجابية، بصفته الشخص الذي ساهم في تحقيق طفرة اقتصادية في بلاده، وضماناً للاستقرار السياسي فيها، فحزب العدالة والتمنية، الذي ينتمي إليه الرئيس، يحكم البلد منذ 15 عاماً، وبسبب الأزمات الحالية التي عاشتها تركيا وتعيشها، كمحاولة الانقلاب الفاشلة، والحرب في الجارة سوريا، وصولاً إلى الهجمات الإرهابية، يعتبر العديد من الأتراك، أردوغان، الرجل المناسب لبلدهم في هذا الوقت.
وكذلك يجسد أردوغان للأتراك المحافظين، الوطن والهوية، ومن بين أسباب دعم الكثيرين له في المقام الأول، الخوف من «حرب أهلية في تركيا»، ولهذا السبب، فالكثيرون لا ينظرون إلى الوضع التركي من منطلق مبدأ دولة القانون والحرية، ولكن من منطلق الاستقرار، وهذا ما يلعب عليه أردوغان في حشد أتراك الخارج، والداخل بالتأكيد، حتى ولو كان من خلال أزمات ساخنة «عابرة» مع الدول الأوروبية، يعلم هو جيداً كيف ومتى سيبدد غيومها في الوقت المناسب.