العلاقات الخارجية الاستراتيجية الواسعة والمعقدة للولايات المتحدة، تضعها في أحيان كثيرة في مواقف محرجة، حين يكون بعض حلفائها في خلافات مع بعضهم، قد تصل حد التصادم، كما هو الحال بين تركيا واليونان العضوين في حلف الناتو، وكما هو الحال بين الكرد وتركيا في سوريا، وكما يحدث في العراق بين حلفائها الكرد والحليف المحتمل، رئيس الوزراء العبادي.

الولايات المتحدة اعتادت على مواجهة ذلك، وأصبح لديها خبرات متنوعة في التعامل مع هذا النوع من التحالفات، طالما تحرص على إبقاء الطرفين في علاقة جيدة معها.

وطالما بقي هؤلاء الحلفاء بحاجة إليها، فهي تعمد إلى الدبلوماسية الهادئة بقفاز حريري، يخفي قبضتها الفولاذية. إلا أن الطريق لمقاربة هذا النوع من الخلافات، قد لا يكون سالكاً بشكل آمن وخالٍ من مطبات خطيرة، خاصة مع تركيا الحليف الآسيوي الأكثر أهمية لها ولحلف الناتو.

وصل كرد العراق في شراكتهم مع الولايات المتحدة إلى منعطف حاسم، فقد تعرضت علاقاتهم معها في الآونة الأخيرة إلى اختبار صعب، بسبب قصور القيادات الكردية عن تفهم السياسات الأميركية وتعقيداتها ومصالحها المتشعبة ومتغيراتها في المنطقة وخارجها.

فرئيس الإقليم السابق، مسعود بارزاني، والرأي العام الكردي بشكل عام، يشعرون بخيبة كبيرة من الموقف الأميركي ضد الاستفتاء، ويعتبرونه من شجع خصوم أربيل، بغداد وأنقرة وطهران، على ممارسة ضغوط هائلة على الإقليم، وتجريده من معظم مكاسبه، وإضعافه إلى الحد الذي يعرضه لمخاطر التفكيك.

فالكرد لم ينتظروا من الولايات المتحدة موقفاً كهذا، مقابل ما أثبتوه من إخلاص في التحالف معها في الحرب على الإرهاب ومناصبة النظام السابق العداء.

والحقيقة أن ما أثار الدهشة والجزع لدى القيادات الكردية، هو الرفض غير العادي للاستفتاء على الاستقلال من قبل الدول الأقوى في العالم، إضافة إلى دول المنطقة والمنظمات ذات الطابع الإقليمي، كالجامعة العربية والاتحاد الأوربي، ما وضع أمام الإقليم مهمة مراجعة استراتيجياته وإعادة صياغتها على الأمدين القريب والبعيد.

فالكرد قد أصبحوا بأمس الحاجة لحليف قوي لمواجهة طموحات بغداد، وضغوط كل من أنقرة وطهران، الساعية لتجريد إقليمهم من الكثير من مكاسبه، فالمفاوضات بين أربيل وبغداد، ستكون أقرب إلى مفاوضات بين خصوم، وليس بين شركاء.

الكرد في أشد حالات القلق، فمع أن وزارة الخارجية الأميركية، أكدت أن علاقاتها مع الشعب الكردي لم تتغير، إلا أن القيادات الكردية لا تخفي خشيتها من أن تلجأ الولايات المتحدة إلى إلغاء مذكرة التفاهم الموقعة مع الإقليم في يوليو 2016، والتي تعهدت بموجبها بدفع رواتب قوات البيشمركة، خاصة أن هذه القوات لم تعد في وضع قتالي مع تنظيم داعش، وتقدر هذه المنحة الأميركية بنحو 450 مليون دولار.

أما بالنسبة لعلاقة الولايات المتحدة مع الكرد في سوريا، حلفائها الأساسيين في قتال داعش، فأياً كانت الطريقة التي تتحرك بها سياساتها، فمن الواضح أنه لن تكون هناك تغييرات في موقفها منهم، خاصة أنها لا تكن تعاطفاً مع النظام القائم، إلا أنها من جانب آخر، لا تستطيع تجاهل الدور الروسي في رسم ملامح سوريا في المرحلة القادمة، وتداعياته على طموحات الكرد.

ولا تستطيع كذلك تجاهل ردة فعل كرد سوريا إزاء الموقف الأميركي، الذي خذل كرد العراق، بعد أن سمحت بهزيمتهم بهذه الطريقة.

وكما هو الحال عند التعامل مع قضايا منطقة الشرق الأوسط، ومنها القضية الكردية، فإن المصلحة الذاتية للدول الفاعلة إقليمياً ودولياً تُطمس في أحيان كثيرة الرؤى المستقبلية لشعوبها، وينصب جل اهتمامها على القضايا التي تعرض نفسها على الأمد القريب، وهي في المرحلة الراهنة، الحرب على الإرهاب.

إلا أن مصالحها على الأمد البعيد، وخاصة الولايات الأميركية وروسيا، فهي تتمثل في إقامة توازنات في اللعبة الجيوسياسية، تصبح فيها أفكار الكرد أو أفكار أي شعب آخر عن الدولة، مصدر إزعاج يقلق هذا التوازن، ولا يدعو للتعاطف معه.

الولايات المتحدة أمام مهمة حفظ توازن دقيق في موقفها بين بغداد وأربيل، مع تفاقم الأزمة بينهما، فالكرد يتهمونها بالانحياز لبغداد، وليس من المستبعد في ضوء ذلك، أن تراود فكرة البحث عن حلفاء جدد، مخيلة قادتهم، وقد خبروا عن كثب الهوة بين الخطاب المتعلق بسياسات الإدارة الأميركية، وحقيقة هذه السياسات على أرض الواقع، ما يعزز ما سبق أن اتهمت به الإدارة الأميركية منذ مجيء باراك أوباما، بالافتقار إلى استراتيجية لسياساتها في منطقة الشرق الأوسط.