سوف تبقى مذبحة «مسجد الروضة» في شمال سيناء في يوم الجمعة الرابع والعشرين من نوفمبر الماضي، فاصلاً بين مرحلتين في مواجهة مصر لإرهاب الإخوان والدواعش وباقي فصائل الإرهاب.

منذ أن تكشفت الحقائق عن المذبحة التي تم ارتكابها والتي حصدت أكثر من ثلاثمائة من المصلين في بيت الله، كان جلياً أننا دخلنا إلى فصل جديد ومختلف في الحرب على الإرهاب، وبعيداً عن الحديث الذي لا قيمة له عن خلافات بين القبائل، أو نزاعات بين سلفية متشددة وصوفية معتدلة..

فقد كان جوهر الاعتداء الأثيم أن الحرب قد تحولت إلى معركة حاسمة بين الدولة بمؤسساتها وجيشها من ناحية، وبين هذه العصابات التي فقدت ما تبقى من عقل، وذهبت في غيها إلى النهاية، ودفعتها الضربات الساحقة التي تلقتها إلى حافة اليأس. والتي فقدت الأمل في أن تجد من قبائل سيناء المناضلة ما يدعمها ويوفر لها بيئة حاضنة كما حدث في بلاد أخرى.. وبالتالي لم يكن أمامها إلا أن تعلن الحرب على الجميع، وتقتل الأطفال والرجال وهم يصلون الجمعة.

ومع بشاعة الجريمة وتوحد ضمير العالم كله في إدانته ودعم مصر في مواجهته، كان هناك من التحركات على جبهات أخرى ما يضاعف الشكوك ويجعل من جريمة «الروضة» عنواناً لمعركة أكبر وأشد ضراوة!

لم تكن دماء الشهداء قد جفت، حين بدأت بؤرة الصديد الإعلامية المسماة بـ«الجزيرة» القطرية تبث سمومها المعتادة وتستدعي بعض الأفاعي من الإخوان أو العملاء المعروفين ليتقيأوا أكاذيبهم التي لم يتوقفوا يوماً عن ترديدها، عن أن حكومة مصر هي التي ارتكبت المجزرة! وأن مصادرهم الوثيقة أخبرتهم وهم يتنزهون على شاطئ البوسفور في تركيا المنكوبة بالإخوان وأردوغان، إن القصة كلها جزء من مسرحية الإعداد لانتخابات الرئاسة، إلى آخر كلام من لا يملكون شيئاً إلا زبالة ما ورثوه عن فكر الإخوان وعن أساليب بؤرة الصديد الإعلامية «الجزيرة» في إدمان الكذب حتى بعد أن يتحول إلى فضيحة!

لكن المثير هنا أننا وجدنا ـ مع تقييمات الجزيرة ـ حملة لا يمكن أن تكون إلا مخططة وممنهجة تشارك فيها صحف أوروبية وأمريكية مثل «الجارديان، والنيويورك تايمز» وغيرهما، مع قنوات تليفزيونية تركت مهنيتها جانباً، لتحدثنا مرة أخرى عن قتل الأطفال والشيوخ وهم يصلون داخل المساجد على اعتبار أنه «عنف مسلح» وليس «إرهاباً» منحطاً! وتسهب في الحديث عن أربع سنوات من مقاومة الإرهاب في مصر بعد 30 يونيو باعتبار أنها تجربة غير ناجحة بدليل الهجوم على مصلين مسالمين يعبدون الله وقتلهم بدماء باردة!

ما فعلته مصر كان إنجازاً هائلاً بكل المقاييس، وهي تسقط حكماً فاشياً إخوانياً مدعوماً من أمريكا وأتباعها، ثم وهي تحارب الإرهاب وحدها وسط ضغوط سياسية واقتصادية، وحصار عسكري، ومع ذلك تسحق الإرهاب في الوادي، وتحاصره في سيناء، ورغم الدعم العسكري والسياسي والمالي الذي تتلقاه عصابات الإرهاب من قوى خارجية لم تعد مجهولة، فإن هذه العصابات تندحر وينحصر وجودها في مثلث صغير من أرض سيناء، ولا تجد في النهاية إلا قتل الأطفال في المساجد لتقول إنها مازالت على قيد الحياة!

وكان الانطباع الأول أن هذه الحملات الإعلامية هي استمرار للعداء لمصر بعد هزيمتها لما كان مخططاً للمنطقة قبل 30 يونيو، وأن من يقفون وراء هذه الحملات يخشون من آثار توحد الرأي العام العالمي مع مصر بعد جريمة «الروضة» التي هزت كل الضمائر الإنسانية، ووضعت الصراع الدائر في سيناء أمام العالم على حقيقته.. صراع بين دولة تسعى لتأمين استقرارها وشعب يسعى للتنمية والنهضة.. وجيش يقاتل ليرد العدوان ويقضي على الإرهاب من جانب، وعصابات إجرامية لا تؤمن بدين ولا وطن!

لكن ما جرى بعد ذلك كان يعطي للأحداث أبعاداً أخطر. ففي ظروف غامضة تأتي الوزيرة الإسرائيلية «جيلا جامليئيل» للمشاركة في مؤتمر دولي بالقاهرة لم تقل شيئاً له قيمة في المؤتمر بل ألقت كلمة سريعة ثم غادرت مسرعة، لكن كانت كلها تصريحات نشرتها مجلة إسرائيلية قالت فيها «إن أفضل مكان للفلسطينيين ليقيموا فيه دولتهم هو سيناء»!

ثم كان الأسوأ من «بي. بي. سي» حين قالت إن الوثائق البريطانية السرية التي تم الإفراج عنها فيها ما يشير إلى اجتماع بين مبارك ورئيسة الوزراء البريطانية عام 1983 مارجريت تاتشر، تحدث فيه مبارك عن لقائه الرئيس الأميركي ريجان وأنه قبل الطلب الأميركي بتوطين الفلسطينيين المقيمين بلبنان في مصر مقابل إطار تسوية شاملة للصراع مع إسرائيل!

وقد اضطر الرئيس الأسبق مبارك للخروج عن صمته، وأصدر بياناً أعلن فيه أنه رفض كل مقترحات التوطين في مصر، ولم يقبل مجرد الاستماع إليها سواء في الوقت (عام 1983) أو في نهاية عهده عندما طرح عليه رئيس وزراء الكيان الصهيوني عام 2010 حكاية التوطين في جزء من أرض سيناء ورفض على الفور مجرد الاستماع لأي طروحات من هذا النوع.

ومن معرفتي بالرئيس الأسبق مبارك ولقاءاتي القليلة به، فإنه لا يمكن أن يقبل التعامل مع مثل هذه الأفكار، وهو المقاتل في حروب مصر، وقائد سلاحها الجوي في أكتوبر، يمكن الاختلاف مع سياسات مبارك الداخلية أو الخارجية ويمكن مناقشة مسؤوليته عن أحداث وقعت أو أخطاء تمت في عهده.. لكن تبقى وطنيته خارج أي نقاش والتزامه بالحفاظ على أرض مصر حقيقة مؤكدة.

..ويبقى التساؤل: لماذا الآن؟

لماذا التصريحات الوقحة من الوزيرة الإسرائيلية، ولماذا الحديث البريطاني، لماذا يثور كل ذلك الآن؟

رد مصر المبدئي كان في تكليف حاسم من الرئيس السيسي لجيش مصر وقوات الشرطة والأمن الداخلي، لإنهاء عملية تصفية عصابات الإرهاب في سيناء، واستعادة الأمن والاستقرار في الجزء الصغير الذي تنشط فيه عصابات الإرهاب، وذلك خلال ثلاثة شهور.

سيتم إنجاز المهمة بمعونة أهلنا في سيناء الذين أصبحوا جميعاً هدفاً لرصاص القتلة من عصابات الإرهاب، لن يكون الأمر بعد مذبحة «الروضة» أبداً كما كان قبلها.