عام مضى على وجود دونالد ترامب في «البيت الأبيض»، عام كان حافلاً بالمواقف المتناقضة لترامب تجاه جملة من القضايا الدولية، لكن ليس تجاه إسرائيل ومصالح حكومة نتنياهو تحديداً، حيث كانت بالنسبة لترامب هي «إسرائيل أولاً»!، فشعار «أميركا أولاً» الذي رفعه ترامب في حملته الانتخابية، وكرّره ويكرّره في أكثر من مناسبة، هو عكس الواقع والممارسة العملية لسياسة إدارته.

فالمصلحة القومية الأميركية تتطلب على المستوى الداخلي رئيساً يحرص على التعدد الإثني والعرقي في المجتمع الأميركي، وترامب صرّح وتصرّف عكس ذلك مع الأميركيين الأفارقة والمسلمين والمهاجرين اللاتينيين، والمصلحة القومية الأميركية تفترض وجود رئيس في «البيت الأبيض» يعمل لصالح الفئات الفقيرة والمتوسطة من الأميركيين، وترامب خدم ويخدم الفئة القليلة من الأثرياء في الكثير من مراسيمه الرئاسية ومشاريع قوانين الكونغرس «الجمهوري»، وما يتّصل بها من مسائل الصحة والهجرة والضرائب والضمانات الاجتماعية.

الحال هو نفسه على مستوى السياسة الخارجية الأميركية، حيث أخرج ترامب الولايات المتحدة من اتفاقيات دولية وهدّد بالخروج من المزيد منها، وهي اتفاقيات تحقّق مصالح قومية أميركية مع جيرانها الكنديين والمكسيكيين ومع الحلفاء الأوروبيين ودول أخرى في آسيا، أيضاً سبّبت تصريحات ترامب وتغريداته أزمات عديدة مع زعماء دول أخرى، حتى مع داخل إدارته، كما حدث مع وزير الخارجية ريكس تيلرسون في ختام زيارته للصين لوضع تسوية سياسية للمشكلة مع كوريا الشمالية!.

فأين مثلاً، «المصلحة القومية الأميركية»، في إضعاف دور وزارة الخارجية لصالح سفيرة ترامب في الأمم المتحدة؟! وأين هذه المصلحة في تزايد مشاعر الغضب لدى شعوب دول العالم تجاه السياسة الأميركية ورمزها في «البيت الأبيض»؟! حتى بريطانيا الحليف التاريخي لأميركا رفض شعبها استقبال ترامب!

فكيف بتقييم ترامب لدى شعوب فرنسا وألمانيا وأستراليا، وهي شعوب صديقة للولايات المتحدة؟! بل كيف تنظر مجتمعات دول العالم الإسلامي وروسيا الاتحادية والصين وغيرها الكثير، إلى ترامب وسياسته؟!.

وأين كانت «المصالح القومية الأميركية» في قرار ترامب بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل وبنقل السفارة الأميركية إليها، وهو قرار يتناقض مع قرارات دولية صادرة عن «مجلس الأمن» ومع سياسة أميركية سار عليها كل من سبقه من رؤساء أميركيين؟!.

وأين المصلحة الأميركية في معاقبة الشعب الفلسطيني والملايين من اللاجئين الذين يعتمدون على مساعدة الوكالة الدولية (الأونروا)، وبما يخالف أيضاً سياسة دول العالم كلّه؟! ترامب تحدّث بحضور نتنياهو عن حجم المساعدات الأميركية للفلسطينيين ولم يرَ مليارات الدولارات التي تقدّمها واشنطن لتل أبيب والتي لم يتمّ وقفها أو تخفيضها رغم خلافاتٍ عديدة حدثت بين الطرفين ومع أكثر من إدارة أميركية!.

ترامب أعلن إخراج القدس من جدول المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو طبعاً لم يشِر إطلاقاً لمشكلة المستوطنات ولا لحقّ العودة ولا لحدود دولة إسرائيل، فعلى ماذا يريد ترامب من الفلسطينيين أن يتفاوضوا، عِلماً أن والد صهره جيرالد كوشنر (المعني الآن بالمسألة الفلسطينية في إدارته)، وأيضاً سفيره الحالي في إسرائيل، هما من أشدّ الداعمين للاستيطان والتطرف الصهيوني، وكذلك الملياردير الأميركي الصهيوني شيلدون أديلسون الذي كان أبرز الداعمين لترامب في حملاته الانتخابية!.

لا ليست «أميركا أولاً» هي حقيقة عنوان أجندة ترامب، بل هي «إسرائيل أولاً» على المستوى الخارجي، وهي «التيار الديني المحافظ» والأثرياء على المستوى الداخلي، ولن تثمر هذه «السياسة الترامبية» إلا مزيداً من الأزمات والانقسامات الداخلية، وتصاعداً في احتمالات التورّط في حروب عسكرية حذّر منها رئيس لجنة الشؤون الخارجية (الجمهوري) في مجلس الشيوخ، واعتبر أن ترامب قد يورّط أميركا في حرب عالمية ثالثة!.

ومرة أخرى، ستكون المنطقة العربية، في حقبة رئاسة ترامب، حقل تجارب لمشاريع إقليمية للولايات المتحدة الأميركية تستهدف دول منطقة «الشرق الأوسط»، فبعد مرحلة إدارة الرئيس جيمي كارتر (الديمقراطي) التي كرّست في معاهدات «كامب ديفيد» نتائج ما بدأه هنري كيسنجر (في فترة الرئيس فورد الجمهوري) من اتفاقيات بين مصر- السادات وإسرائيل، جاءت فترة إدارة ريغان الجمهورية التي وافقت على غزو إسرائيل للبنان ولأول عاصمة عربية وعلى إخراج قوات «منظمة التحرير الفلسطينية» منها.

ثم كانت فترة جورج بوش الأب (الجمهوري) التي رعت «مؤتمر مدريد» في مطلع عقد التسعينات ليكون مقدمة لـ «سلام عربي/إسرائيلي» شامل يتضمن تطبيعاً للعلاقات بين كل العرب وإسرائيل، وفق مقولة «شيمون بيريز» عن «الشرق الأوسط الجديد».

وفي هذه الحقبة الزمنية: عقد التسعينات، وتحت رعاية إدارة بيل كلينتون الديمقراطية، وقّعت إسرائيل اتفاقية أوسلو مع «منظمة التحرير» ومعاهدة السلام مع الأردن، وفشلت محاولات عقد معاهدات مع كل من سوريا ولبنان.

وستشهد واشنطن قريباً حركة دبلوماسية مهمة لها علاقة بمصير عموم منطقة «الشرق الأوسط»، وقد أشار ترامب إلى وجود مشروع إقليمي يعمل على إعداده زوج ابنته جاريد كوشنر، يتجاوز مشاكل «الملف الفلسطيني» ويتعامل مع قضايا المنطقة كلها.

إن الحديث يتكرر الآن عن استراتيجيات دولية وإقليمية تجاه المنطقة، بينما الغائب الأكبر هو الاستراتيجية العربية المشتركة، والحاضر الأفعل هو الصراعات البينية بين العرب والتي تشمل بسلبياتها كل دول المنطقة، فالقادم على المنطقة، بفضل سياسة ترامب وحليفه الإسرائيلي، ليس هو الخيار بين «محور مقاومة» و«محور سلام مع إسرائيل»، بل بكل وضوح: الخيار بين أوطان موحدة مستقرة وبين دويلات متصارعة لصالح المشروع الإسرائيلي.. أولاً وأخيراً!.