كان لعودة حركة طالبان إلى السلطة في كابول بالطريقة السريعة والفوضوية التي شاهدها الملايين عبر الفضائيات، صدى في مختلف عواصم العالم.

على أن حديثنا هنا يقتصر على صدى الحدث في نيودلهي تحديداً، نظراً لما له من تداعيات سلبية على الأمن القومي الهندي، وخصوصاً في ضوء علاقات طالبان المعروفة تاريخياً بباكستان، ناهيك عن علاقتها الأيديولوجية الوثيقة بالتنظيمات المسلحة في كشمير.

وإذا كان الانتصار الطالباني قد قرع أجراس الإنذار في عواصم إقليمية ودولية كثيرة، فإن دويها كان مسموعاً في الهند أكثر من أي مكان آخر، لأن الأخيرة كانت مطمئنة إلى وقت قريب بأن ما استثمرته في أفغانستان من جهود وأموال في العقدين الماضيين لن يذهب سدى، وأنها تمكنت من إيجاد موطئ قدم ثابت لها في هذا البلد.

بحيث تستطيع من خلاله مواجهة غريمتها الباكستانية صاحبة النفوذ التقليدي المستند إلى الروابط الدينية والقبلية والثقافية في أفغانستان. ولكن ما حدث هذا الشهر يبدو أنه أسدل الستار على الأحلام الهندية تماماً، ولا سيما بعد أن نفى المتحدث الإعلامي باسم طالبان وجود أي اتصالات سرية بين حركته ومسؤولين هنود.

إن الوضع في أفغانستان مع عودة طالبان يسوده عدم اليقين من زاوية نمط الحكم الذي سيسود وعلاقات البلاد بالعالم الخارجي ومصير ما حققته من انفتاح وتقدم اقتصادي واجتماعي وثقافي في ظل الحكومة السابقة. وبمعنى آخر فإن العالم في مرحلة ترقب لما ستقرره طالبان. والهند، التي أغلقت سفارتها وقنصلياتها في أفغانستان وأجلت رعاياها كافة منها.

لا شك في أنها في صدر قائمة المراقبين والمنتظرين، وإنْ كانت تشك كثيراً في صدور قرار طالباني باستمرار التعاون معها، ومد يد الصداقة إليها، وخصوصاً أن الهند منحت حق اللجوء السياسي للعشرات من المشرعين والوزراء الأفغان السابقين.

والمعلوم أن نيودلهي، لأسبابها الاستراتيجية الخاصة، وثقت علاقاتها بحكومة كابول بُعيد سقوط إمارة طالبان عام 2001، ولعبت دوراً إيجابياً في عملية بناء الدولة المدنية الأفغانية من خلال حزمة من المعونات التنموية في المجالات الحيوية والتكنولوجية (بلغت قيمتها الإجمالية نحو 3 مليارات دولار وشملت أكثر من 400 مشروع)، ناهيك عن عملية تسهيل التبادل التجاري الواسع (بلغت قيمة التبادل التجاري في الفترة 2019 ــ 2020 مثلاً أكثر من مليار دولار). ومن هنا يشعر المسؤولون الهنود بالقلق من أن تذهب هذه الجهود سدى، ووقعت ثمارها في أيدي جماعة لا تكن لنيودلهي الود.

ولعل ما يشعرهم بالمرارة أن حليفتهم الأمريكية، التي لطالما طمأنتهم أن كل الأمور في أفغانستان تسير بخير وأنه لا داعي للقلق من الاستثمار فيها، هي التي ساهمت في وصول الأوضاع الأفغانية إلى هذا المنعطف.

الأمر الآخر المقلق لحكومة «ناريندرا مودي» أن المعارضة الهندية قد تستغل ما لحق بالاستثمارات الهندية الكبيرة في أفغانستان من خسائر كورقة انتخابية ضدها، وخصوصاً أن مودي ووزراءه ورموز حزبه كثيراً ما تحدثوا بفخر عما تقوم به حكومتهم في أفغانستان من مشاريع تنموية.

في هذا السياق يجدر بنا الإشارة إلى أن وزير الخارجية الهندي «سوبرامنيام جايشنكار» عدد في مؤتمر عقد في جنيف حول أفغانستان في العام الماضي المشاريع الهندية في أفغانستان مشيراً إلى «سد شتوت» في منطقة كابول والهادف إلى توفير مياه صالحة للشرب لنحو مليوني نسمة، و«سد سلمى» لتوليد طاقة كهربائية بقدرة 42 ميغاوات، و«سد الصداقة» بولاية هرات للري وتوليد الطاقة الكهرومائية، والطريق السريع بطول 218 كلم بالقرب من الحدود الأفغانية الإيرانية.

ومبنى البرلمان الأفغاني بتكلفة 90 مليون دولار، وترميم قصر النجوم الأثري، وإعادة تأهيل عشرات المستشفيات والمراكز الصحية وتزويدها عربات الإسعاف، وتزويد وزارة المواصلات الأفغانية مئات من حافلات النقل العام، وتزويد الجيش الأفغاني مجاناً عشرات المروحيات وطائرات النقل والتموين.

والحقيقة أن استثمارات الهند في أفغانستان، من الناحية المادية، قد تعوض، ولكن ما لا يمكنها تعويضه هو خسارتها حليفاً استراتيجياً مهماً في آسيا كانت تعول عليه كثيراً من النواحي الأمنية. والحقيقة الأخرى أن خيارات الهند في هذه البلاد غير المستقرة باتت جد محدودة، بمعنى أنها تفتقر إلى عامل التأثير في الأوضاع الحالية، وبالتالي فليس أمامها سوى أن تتمنى تشكيل حكومة أفغانية ائتلافية لا تكون خاضعة لهيمنة طالبان بالكامل.

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي