يتسم هذا الكتاب بخاصية تجلت في دأب الباحثتين اللتين شاركتا في وضع مادته، وتولتا المسؤولية عن متابعة تحرير فصوله ونشره كإصدار متميز عن جامعة أكسفورد البريطانية العريقة. يضاف إلى مزايا الكتاب، حقيقة أنه يركز دراساته الإحدى عشرة على منطقة الشرق الأوسط (في جناحها الشرقي بالذات، بما في ذلك مصر العربية)، فيما يضيف في هذا المضمار.

بُعداً جديداً، بقدر ما إنه بالغ الأهمية، حين يعمد إلى الربط بين قضية الأمن الغذائي في منطقة الشرق الأوسط وبين قضايا محورية وحياتية شتى، يأتي في مقدمها مثلاً، التأكيد على أن الغذاء حق أساسي من حقوق الإنسان. ولكن هذا الحق البديهي بات يتسم في مرحلتنا الراهنة بطابع التسييس، سواء من منظور العلاقات الدولية، وفي مقدمها علاقات الاستيراد والتصدير للمواد الغذائية..

أو من منظور الأوضاع الداخلية في الشرق الأوسط، حيث يعرض الكتاب موضوعياً لأحوال التباين التناقض بين الحضر والريف والبادية، فيما يعرض أيضاً لظاهرة تراجع الاهتمام بالزراعة، بوصفها المصدر الأساسي لتوفير المحاصيل المستلزمات الغذائية. وقد أسهم في وضع مادة الكتاب كوكبة من الباحثين (25 باحثاً)، الذين درسوا عددا متفاوتا من القضايا المتصلة بالأمن الغذائي، سواء على مستوى المنطقة بشكل عام، مع الربط بين هذا الجانب وبين سائر الجوانب الأخرى.

 شهيرة تلك المقولة التي ما برحت تصدق على الصقع الممتد ما بين أفريقيا وآسيا، ولا يزال يحمل اسم الشرق الأوسط.

المقولة إياها جاءت بها، وما زالت تحفل بها، الأدبيات السياسية الأميركية المعاصرة، وهي تعقد مقارنة دالّة وطريفة في ما نتصور بين اثنين من الكيانات، وهما كندا والشرق الأوسط، وهنا، تطرح المقارنة نفسها على النحو التالي: ما أبعد الفرق بين الكيانين: كندا دولة تعاني من وفرة في المساحة والموارد ونقص مزمن في التاريخ.

أما الشرق الأوسط، فمنطقة حالها على العكس تماماً: ضيق في المساحة ونقص خطير في الموارد، ولكن وفرة بغير حدود في التاريخ.

ويكفي أن هذا التناقض بين الحالتين يعبر عن نفسه بالذات في ما يتعلق بما هو متاح لهذين الكيانين من أهم مورد لا يزال يمس حياة الناس، وفي الصميم، ونعني به موارد المياه.

خبراء المياه يعّدون كندا من أوفر الأقطار حظاً بالموارد المائية: رقعتها الفسيحة وآمادها الشاسعة حافلة، بل هي محظوظة بالعديد من أنهار المياه العذبة، بل إن أصقاعها الشمالية التي تعاني موضوعياً من أوسع غطاء جليدي في مواسم الشتاء، لا تلبث أن تستوفي حظوظها، وكأنما على سبيل التعويض، عندما يحلّ موسم الدفء، النسبي حتي لا ننسى، في الربيع والصيف، فإذا بهذه الثلوج وقد تحولت بفعل الانصهار والذوبان إلى أنهار أو شبه أنهار من المياه العذبة الصالحة لكل الأغراض، ومن ثم لاستمرار الحياة فوق ظهر الأرض.

وبديهي أن الماء، وقد اختارته إرادة السماء كي تجعل منه كل شيء حي، هو المورد الجوهري للزراعة والنبات، ومن ثم لكل أنواع الأغذية اللازمة لجموع البشر من كل الفئات وعلى اختلاف الأعمار.

أزمة في الأنهار

في الشرق الأوسط، تكاد الصحراء تشكل المحور الأساسي، أو هي العامل الجامع المشترك الذي يربط بين كل أجزاء المنطقة المذكورة ما بين أقصى شرقها في العراق وشبه الجزيرة، إلى أقصى ربوعها المغاربية عند موريتانيا المطلة، كما هو معروف، على شواطئ الأطلسي.

لا يكاد الشرق الأوسط يمتلك من الأنهار الرئيسة، المصادر الكبرى كما يسمونها من المياه العذبة، سوى نهرين في أرض الرافدين، ونهر كبير تنحدر منابعه في أقطار غير عربية من هضاب أفريقيا الشرقية وساحات البحيرات في وسط القارة السمراء، بينما يتخذ منتهاه في السودان العربي، وبعدها يخلص إلى المصب النهائي في الأرض المصرية.

بعد ذلك لا يكاد الشرق الأوسط، على امتداد مراميه عبر القارتين اللتين أشرنا إليهما يحوي أنهاراً يُعتد بها، وبمعنى مصادر رئيسة غزيرة ومضمونة للمياه العذبة، وفي قامة وأوصاف أنهار العالم الكبرى، من مقياس أمازون البرازيلي أو الراين الأوروبي أو النيل الأفريقي أو الفولجا الروسي، أو أنهار آسيا الكبرى التي تشق شبه القارة الهندية أو تجري في أصقاع الصين أو جاراتها.

في ضوء هذا كله، أصبحت الأوساط المسؤولة في حال من الانشغال الجاد والعميق إزاء واقع ومستقبل الشرق الأوسط، ومن زاوية محورية، بل هي جوهرية بالنسبة لاستمرار، ناهيك عن رفاه، الحياة لشعوب المنطقة المذكورة أعلاه.

أما الزاوية، فكان لا بد أن ترتبط، في ضوء ما أسلفنا بقضايا أساسية- حياتية بما يمكن أن تواجهه منطقتنا من تحديات معيشية بالدرجة الأولى، وفي ضوء نقص الموارد اللازمة لحياة تلك الشعوب، وفي مقدمها موارد المياه، ومن ثم موارد الغذاء بطبيعة الحال.

وعلى أساس هذا كله، يتركز اهتمامنا على الكتاب الصادر أخيراً تحت العنوان المباشر التالي: الأمن الغذائي في الشرق الأوسط.

وقبل أي تفاصيل، فإن الكتاب يكتسب أهميته، فضلاً عن موضوعه الخطير، من حقيقة أنه يقوم أولاً على أساس ورقات علمية- بحثية، أسهم بها العديد من العلماء الاختصاصيين في هذا المضمار، في حين تزداد هذه الأهمية، لأن المشاركة في وضع مادة الكتاب، فضلاً عن مسؤولية تجميع وتحرير الدراسات التي تتحدم بها العلماء المساهمون..

تولّت أمرها كل من الأكاديمية زهرة بابار الأستاذة بقسم الدراسات الدولية والإقليمية بجامعة جورج تاون، وزميلتها سوزي ميرغني، التي تتولى التدريس وتحرير الدراسات المنشورة والصادرة عن الجامعة الأميركية المذكورة.

يتميز هذا الكتاب بأنه لا يقتصر في أبوابه وفصوله على أحاديث نظرية أو على أفكار أو إحصاءات مستقاة من متون الكتب أو مفردات البيانات النظرية: الكتاب يصدر أيضاً عن بحوث تجريبية- أميركية، وبيانات وإحصاءات ومقارنات مستمدة من الواقع الميداني المُعاش في شتى أقطار الشرق الأوسط.

طروحات شاملة

كما يتميز النهج الذي اتبعته كل من الباحثتين المسؤولتين عن طروحات كتابنا، بأنه لا يقتصر على التعامل مع قضية الأمن الغذائي من المنظور الضيق أو المحدود المرتبط مثلاً بمسألة الكمّ المتاح من الأغذية..

أو بمدى إتاحتها أو توافرها من حيث اليسر أو الصعوبة: فالكتاب يربط بين قضية الأمن الغذائي وبين ما تطلق المؤلفتان التوصيف التالي: السيادة الغذائية، ومعناها، من واقع ما يذهب إليه الكتاب مدى السيطرة الوطنية القومية، أو هي الشرق أوسطية، كما قد نسميها على موارد الأغذية المطلوبة لشعوب المنطقة من حيث الكمّ والنوع والأسعار على حد سواء.

هناك أيضاً ما يطلق عليه الكتاب أيضاً وصفاً آخر، هو: »النظم الغذائية«.

وهي النظم المرتبطة بالزراعة ومحاصيلها وغلّاتها في المنطقة، إضافة إلى واقع استراتيجيات الاكتفاء الذاتي المطلوب في مجال الأغذية، ثم شبكات التوزيع القطرية، وأخيراً، أنماط استهلاك النوعيات المختلفة من الأغذية، مع ما يرتبط بهذا من التحولات إلى النظم والعوائد الغذائية، بحيث يصب هذا كله، على نحو ما تؤكد المؤلفتان، في نجاعة الرعاية الصحية المستندة بداهة إلى عامل الغذاء في أبعاده المختلفة التي يعرض لها الكتاب، ابتداء بالأمن (الغذائي)، وصولاً إلى التغذية الصحية، ومروراً، كما عرضنا، بالسيادة الغذائية، وهو المعنى المرادف لإمكانية الحصول على المقادير المطلوبة، بعيداً عن ضغوط الواردات أو تقلبات الأسعار.

من هنا، جاز لمطبعة أكسفورد، التي أشرفت على طباعة وإصدار كتابنا، أن تصفه بإيجاز بليغ في عبارات تقول: هذا الكتاب يستمد قيمته من حقيقة أنه يتعامل في موضوع غذاء الشرق الأوسط مع اختصاصات متعددة، تجمع ما بين علم السياسة وعلم الاقتصاد، إلى جانب قضايا الزراعة وسياسة الرعاية الصحية، ولكنها تمسّ في الصميم، علاقة الغذاء بالإنسان.

أزمات غذائية حادة

إن كتابنا يكاد يستثير، إن لم يستفز، مشاعر تجمع بين الاهتمام والتحدي، إزاء ما يطرحه من أبعاد أزمة الأغذية في الشرق الأوسط، وخاصة حين تؤكد فصوله، كيف أن معظم أقطار المنطقة، وخاصة دولها الشرقية، التي تعرض لها معظم فصول الكتاب، ما برحت تعاني، موضوعياً، من أزمات غذائية، وهي أزمات تتسم، كما توجزها هذه الفصول، بأبعاد متباينة على النحو التالي: التمييز في معظم الأقطار الشرقية بين المناطق الحضرية والمناطق غير الحضرية، بين المدينة والقرية، وبين العواصم والأرياف وبين أهل الحضر وأهل البوادي، ولصالح الطرف الأول على طول الخط.

 أزمة 2008 تلقي بظلالها على المنطقة

لأن الشرق الأوسط منطقة محورية، من حيث موقعها الجغرافي، فيما يكاد يكون وسط العالم، فقد كان بديهياً أن تتأثر المنطقة بما أصاب هذا العالم، وخاصة بحلول ما أصبح يوصف بأنه الأزمة المالية- الاقتصادية خلال الفترة 2007- 2008، وهي الجائحة التي لا تزال تخلّف عواقبها السلبية على اقتصادات الكثير من دول العالم، حيث لا تزال تجسدها مثلاً ما يعرف باسم أزمة اليورو في الاتحاد الأوروبي..

إضافة إلى أزمات شتى لا تزال تعانيها اقتصادات نامية وشبه نامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بل وفي الأرجاء الجنوبية المتوسطية من كيان الاتحاد الأوروبي ذاته. ثم جاءت أحداث السنوات الأربع الماضية، وقد بدأت، كما هو معروف، تحت مسمى ظاهرة الربيع العربي، وحفلت بمتغيرات لا مجال في هذا المقام الراهن لتقييمها، ولكنها حفلت موضوعياً بعوامل جمعت ما بين عوامل السلب ..

وعناصر الإيجاب، ولكنها أدت في مجـــــملها إلى التركيز، في تصورنا، على أهـــــمية الربط بين قضايا الغذاء وقضايا الأمن، فضلاً عن قضايا السيادة الوطــــنية وقضايا التعامل، ترشيداً أو تراضياً مع دول العالم خارج منطقة الشرق الأوسط، وبالذات في ما يتعلق بقضايا تمس حياة ومصائر الناس، وفي مقــــدمها، كما أسلـــفنا، قضية الغذاء.

من هنا، فلم تعد قضايا الأمن الوطني، أو سيادة الدول، ترتبط فقط بالأبعاد العسكرية، أو بمسائل العلاقات الدولية، وإنما أضيف إلى ذلك كله، تلك الأبعاد المتصلة بالأمن الغذائي، الطامح إلى حالة من الاكتفاء، أو شبه الاكتفاء الذاتي من الأغذية الأساسية ذات المحتوي الغذائي المحــــقق لصحة الأفراد والشعوب في الشرق الأوسط، بعيداً عن ضغوط العلاقات الدولية..

أو سيطرة وأجندات النظم السياسية على اختلافها في شرق عالمنا وغربه، أو هيمنة الشركات والاحتكارات المتعددة الجنسيات، ونفوذ المؤسسات عبر الوطنية، وهي التي ما برحت تتمتع بنفوذ واسع لا سبيل إلى إنكاره في مجالات الغذاء والدواء، وما في حكمها من مستلزمات الحياة. في هذا السياق بالذات، فقد أحسنت مؤلفة كتابنا زهرة بابار، حين كتبت في واحد من فصول الكتاب، لتقول بما يلي:

أصبح الاتفاق معقوداً على أن الحصول على الغذاء بات يشكل حقاً أساسياً من حقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن علينا أن نعترف بأن هذا الغذاء، أصبح في واقع الأمر، أمراً من أمور السياسة، والأكثر من هذا، أن الغذاء، وعلى خلاف الرعاية الصحية أو التعليم أو الإسكان، ما لبث أن تحول ليشكل قضية من قضايا الأمن الوطني.

 الأقل في الاكتفاء الذاتي

تبادر زهرة بابار، من باب الاحتراز، الأكاديمي كما نتصور، لتوضيح أنها تتعامل في الكتاب مع الشرق الأوسط، ليس باعتباره إحدى مناطق العالم التي تعاني مثلاً من غوائل الجوع أو المجاعة (وهذا ما نحمد عليه الله عز وجل)..

ولكن المنطقة تُعد من الناحية الأخرى، واحدة من أقل مناطق عالمنا من حيث الاكتفاء الذاتي من الأغذية المطلوبة للشعوب التي تعيش على صعيدها. ويرجع ذلك إلى عوامل شتى، يؤكد الكتاب على أن من أهمها شحّة الموارد المائية، على نحو ما أسلفنا الحديث عنه في مستهل هذه السطور.

المؤلفتان

 تستند زهرة بابار إلى تاريخ حافل من الخدمة دولياً، حيث عملت لسنوات طويلة لدى منظمة العمل الدولية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فيما ركزت على قضايا الهجرة والسياسات العمالية على مستوى مجلس التعاون الخليجي.

أما زميلتها سوزي ميرغني، فتعمل أستاذة باحثة، إلى جانب عملها في مجالات تحرير المنشورات العلمية الصادرة عن مركز الدراسات الدولية والإقليمية بجامعة جورج تاون أيضاً. وتعمل في كلية الخدمة الخارجية (الدبلوماسية) التابعة لجامعة جورج تاون بقطر.

 تأليف: زهرة بابار، سوزي ميرغني

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مطبعة جامعة أكسفورد، لندن، 2015

عدد الصفحات: 320 صفحة