في غمار إشادتها بمحتويات هذا الكتاب، وبالنهج المتفائل الذي اتبعته المؤلفة بالنسبة للواقع والمستقبل الأفريقي، كتبت صحيفة نيويورك تايمز تقول: إن الكتاب يمثل حكاية مفعمة بالأمل بشأن قارة أصبحت في طريقها نحو الصعود.
وبررت الصحيفة الأميركية هذه الإشادة فأضافت قائلة: إن الكتاب يطرح صورة تصحيحية لأفريقيا التي طالما رسموها على أنها قارة مظلمة لا تبعث على الأمل.
ولعل هذه الروح من التفاؤل التي تكاد تحيط بأي قراءة تحليلية ونقدية لهذا الكتاب، هي التي انبعثت كما تضيف من ناحية أخرى صحيفة »بوسطن غلوب«- من قدرة المؤلفة على تجاوز تحيزات الماضي التي طالما أحدقت بحالة التعامل مع قارة أفريقيا وشعوبها ومشكلاتها، إلى حيث تتغير الصورة النمطية المتوارثة والمنطبعة.
أو هي الجامدة والمقولبة عن قارة ظلت فريسة للفقر والظلم والصراعات الداخلية.
مع هذا كله، يسجَّل لمؤلفة الكتاب، وهي بداهة أفريقية الجذور، أن نهجها التفاؤلي لم يقم على أساس التعلل الموهوم بالأمنيات بقدر ما قام عبر فصول الكتاب العشرة على أساس جهد استقصائي، جمع بين الدراسة العلمية لأحوال أفريقيا وآفاق مستقبلها وبين الاستقصاء الميداني في دواخل وتلافيف الحياة في شوارع مدن القارة وعبر أقطارها المختلفة.
حارت البرية يوماً في الأسماء التي تضيفها على كيانها وأحوالها وتاريخها ومستقبلها. فقد حملت أفريقيا مسميات تتراوح ما بين القارة المظلمة، أو القارة شبه المجهولة أو القارة العذراء أو القارة المنسية.
أو القارة السمراء، إلى آخر ما جادت به القرائح والاتجاهات والأهواء أيضاً. والحاصل أنه ما من قوة أو دولة في القارة الأوروبية إلا وكان لها نصيب، أو فلنقل كان لها قضمة من الكعكة الأفريقية، يستوي في ذلك كيان إمبراطوري ضخم، مثل إنجلترا في شرقي القارة ووسطها، وكيان ظل يماثله بل وينافسه في الضخامة من حيث المخططات والأطماع، مثل فرنسا في غربي القارة وشمالها (المغاربي)، بقدر ما يستوي كيان أوروبي محدود من حيث الأهمية والمساحة أيضاً، مثل البرتغال في أنغولا، أو كيان كان مستجداً في مضمار المخططات الاستعمارية، مثل إيطاليا في ليبيا والحبشة، أو كيان ناضج مثل ألمانيا في الكاميرون، فضلاً عن بلجيكا ذات الدور الأوروبي المحدود، إلا أنها ألقت بظلالها الاستعمارية القاتمة على أصقاع الكونغو، ومارست على صعيده ضروب الاستغلال الإمبريالي بكل قسوته، بل وحْشيته في بعض الأحيان، وعلى نحو ما صورته إبداعات الكاتب الإنجليزي جوزيف كونراد (1857- 1924) في روايته الشهيرة بعنوان في قلب الظلام.
بسمارك وأفريقيا
على أن التاريخ الرسمي المسجل الذي شهد إدراج أفريقيا في الدفتر الرسمي للاستعمار الأوروبي، يتوقف ملياً عند عام 1883 على وجه الخصوص.
كان هذا موعد انعقاد »مؤتمر برلين« الشهير، تحت رعاية أوتو بسمارك مستشار ألمانيا في ذلك الحين. يومها تنادت كل القوى الأوروبية إلى المشاركة في المؤتمر المذكور من أجل الفوز بنصيبها من كعكة القارة، ولذلك فلم يكن مصادفة ألا يزال ما حدث في برلين يحمل العنوان التاريخي التالي: »مؤتمر التسابق على أفريقيا«.
من يومها، وعلى امتداد الفترة الفاصلة من مؤتمر برلين، وربما الحقبة التي سبقته وحتى حلول عام 1960 على وجه الخصوص، ظلت أفريقيا قارة مظلومة، مثخنة بجراحات الاستعمار والاستغلال: وظل أهلها خاضعين لسيطرة الاستعمار الخارجي، أما ثرواتها المعدنية والزراعية فكانت مستباحة لحساب مواقع الثروة والإنتاج لدى هذا المستعمر الرأسمالي الأجنبي، ولدرجة أن كادت أفريقيا تعد الأقرب إلى حالة ميؤوس منها في نظر دوائر عديدة، لكن الأحوال كان لا بد أن تتغير.
صحيح أن أقطار أفريقيا عانت كثيراً حتى برغم حصولها على الاستقلال في عام 1960، وتجسدت معاناتها في عثرات خطط التنمية الوطنية التي طالما افتقرت إلى ما يتطلبه التحول التنموي من رؤوس أموال طائلة وخبرات تقنية ودراية فنية عالية، إلى آخر ما تقتضيه مطالب التحولات الجذرية واحتياجات مواطني أفريقيا، وخاصة أجيال ما بعد الاستقلال.
إلا أن ثمة ظروفاً استجّدت وما زالت تتوالى، فإذا بها تنطوي أو تكاد على الأمل، أو على قدر من الأمل في أن تسفر الجهود المبذولة في أفريقيا عن إيجابيات لصالح الأفارقة في التحليل الأخير.
هذا بالضبط ما تعبر عنه مثقفة شابة أفريقية الأصل، تعمل بالصحافة وتهتم بقضايا السياسة والتنمية، ومن ثم أصدرت كتابها الذي نتعايش معه في هذه السطور، وقد اختارت له عنواناً مفعماً بالأمل، يقول بالتالي: القارة اللامعة (حتى لا نقول المتألقة).
ثم إن المؤلفة، دايو أولوبادي، تدلف إلى موضعها مباشرة حين تختار لكتابها عنواناً فرعياً، تقول فيه ما يلي: تحطيم القواعد ومباشرة التغيير في أفريقيا الحديثة.
خريطة أفريقية جديدة
يضم الكتاب 10 فصول، يبدأ أولها بحديث عن خريطة جديدة لأفريقيا، وينتهي آخرها بتساؤل بشأن مَن المسؤول عن التغيير الإيجابي الذي لا شك تطمح إليه القارة.
لكن هذه النغمات شبه المتفائلة لا تحول بين مؤلفة كتابنا وبين طرح أكثر من سؤال، في أكثر من موضع بشأن ما اصطلحت عليه معاجم السياسة من أوصاف من قبيل الدول الفاشلة التي تعزو المؤلفة فشلها إلى عوامل عديدة ومتشابكة، ربما تبدأ بمشكلات الحدود الفاصلة بين معظم الأقطار الأفريقية في غرب القارة أو شرقها، وهي حدود سبق رسمها بالطبع في عصور الاستعمار الأوروبي، وكان طبيعياً أن يأتي رسمها محققاً لمصالح الطرف الخارجي المستغل، وفي تجاهل شبه تام للحقائق الماثلة على أرض الواقع الأفريقي، يستوي في ذلك الولاءات القبلية أو الكيانات العشائرية أو منابع المياه اللازمة للحياة أو مساحات الرعي وأراضي الزراعة، فضلاً عن مواقع الركازات والثروات المعدنية.
من ناحية أخرى، وفيما تعاني أفريقيا مثل هذه المشكلات، فقد آن لها، على نحو ما توضح مؤلفة هذا الكتاب، أن تدرك ما تنطوي عليه من إيجابيات.
وبينما تعاني قارة أوروبا وهي السيد المستعمر القديم- من شيخوخة السكان، وهو ما يهدد مستقبل الحياة والصناعة والتنمية في الاتحاد الأوروبي نفسه، فإن أفريقيا جنوبي الصحراء- ما زالت تتمتع بما تصفه كاتبتنا دايو أولوبادي برصيد استثنائي بكل معنى الكلمة. وهو رصيد ديموغرافي، كما تسميه المؤلفة، بما يجعل من أفريقيا أصغر المناطق وأكثرها شباباً في العالم، حيث إن 70 في المئة من سكانها لا يزالون دون سن الثلاثين.
ماذا يريد الشباب؟
هنا أيضاً تتوقف طروحات الكتاب عند هذه الهوة الفاصلة بين أغلبية الشباب في أفريقيا وأقلية المتقدمين في السن في مقاعد السلطة وعلى صعيدها.
وبمنطق المسؤولية، كمثقفة وصحافية أفريقية الجذور، تقول المؤلفة إن خريطة الشباب في القارة السمراء ليس أمامها سوى 3 مسارات (أو خيارات) تحاول دايو أولوبادي عرضها على النحو التالي:
أولاً، أن يتاح للشباب الأفريقي سبل تحصيل التجارب والخبرات بالأزمة، وهذا يستوجب في تصور المؤلفة- التحوّل عن أسلوب التعليم القائم على الحفظ والتلقين في المدارس الأفريقية، إلى تعليم يتسم بمزيد من الطابع العملي، بل وبإتاحة فرص إدرار الدخل لصالح شباب المتعلمين.
ثانياً، أن تتبع الدول الأفريقية أسلوباً مغايراً، إن لم يكن مبتكراً، في تعليم حديثي السن من أبنائها، بعد أن ثبت أن هناك العديد ممن تسرّبوا من سلك التعليم، وهناك العديد ممن تخرجوا في المدارس الحكومية، وهم من أنصاف المتعلمين، أو فلنقل من أنصاف الجهلاء، يستويان.
ثالثاً، أن يسود الوعي على المستوى السياسي والثقافي بأن الدول الفاشلة في أفريقيا لا يمكن أن تُقال من عثراتها إلا إذا اتّبعت الفعاليات المسؤولة على صعيدها أسلوباً يقضي بتشجيع جماعات الشباب على المشاركة في العمل العام، وتولّي مواقع هنا أو هناك في مضمار المسؤولية عن قضايا المجتمع والتنمية والتطور وتحديات المستقبل.
نموذج اسمه رواندا
هو نموذج تراه المؤلفة إيجابياً بشكل من الأشكال، وتعّده واحداً من مبررات إطلاق لفظة اللامعة أو المضيئة، وصفاً لأفريقيا المعاصرة، بدلاً من وصف القارة المظلمة الذي تعزوه مؤلفتنا إلى المستكشف الإنجليزي هنري مورتون ستانلي في تقريره الشهير المقدم عن الكونغو في عام 1878.
أما النموذج الذي ينطوي على أبعاد إيجابية في أفريقيا، فيحمل الاسم التالي: رواندا.
وقبل أن نضع علامات تعجب بشأن هذا النموذج، تعترف المؤلفة بأن كل امرئ في عالمنا لا يزال يتذكر اسم رواندا مقروناً كما هو معروف- بما شهدته رواندا نفسها (وجارتها بورندي أيضاً) عام 1994، من مذابح رهيبة لا يزال مرتكبوها يحاكَمون دولياً عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، حسب مصطلحات منظومة الأمم المتحدة.
لكن، يبدو أن القوم تعلموا ذلك الدرس الخطير والمرير.
وقد انقضت عليه بداهة سنوات ربع قرن ويزيد. هنا، تضيف المؤلفة قائلة: في أيامنا هذه، تأتي رواندا في طليعة الدول الأفريقية من حيث تيسير سبل الاستثمار وإدارة الأعمال التجارية (البيزنس).
وأنت حين تسلك الطرق في هذا البلد الأفريقي، ستلاحظ على الفور أن هذه الطرق التي سبق لها في عام 1994 أن كانت موبوءة بعشرات الجثث الآدمية المتخلفة عن دموية الصراع ، فإذا بها الآن وقد أصبحت مسالك ممهدة وطرقاً معبّدة تصل في يسر ونعومة معمارية بين مدن رواندا ودواخلها على السواء.
ازدياد »تسونامي« المتقاعدين في الاقتصادات السمينة
تقول مؤلفة الكتاب: فيما يرتفع متوسط العمر في الاقتصادات السمينة في عالمنا، مثل اقتصاد اليابان أو إيطاليا وأميركا، فإذا بهذا الارتفاع يزيد من هواجس القلق إزاء ما سوف تشهده تلك الاقتصادات من ظواهر تسونامي المتقاعدين، إلا أن متوسط العمر في قارة أفريقيا (السمراء) لا يتجاوز حالياً سن التاسعة عشرة، ومن ثم، فإن نسبة 70 في المئة من سكان تلك الأصقاع- جنوبي الصحراء- يقل عمرهم عن الثلاثين عاماً، وهو ما يمثل مصدراً لم يتم الإفادة منه حتى الآن من مصادر الطاقة البشرية الممكن استثمارها.
لكن مشكلة أفريقيا تضيف المؤلفة في سطور الفصل التاسع- تتمثل في أن ثمة هوة واسعة للغاية تفصل بين هذا الرصيد الشبابي على مستوى القواعد الشعبية، وبين أعمار بعض السادة الحاكمين هنا أو هناك من أقطار القارة. وعلى سبيل المثال، كانت المنافسة الانتخابية في عام 2007 في كينيا بين اثنين من المرشحين، يبلغ عمر الأول 76 عاماً، فيما ظلت شعارات الثاني تفخر بأنه لم يتجاوز سن 62 عاماً، وكأنما يمثل دماء جديدة، على نحو ما تصفه المؤلفة، بقدر من التهكم لا يخفى.
وفي السياق نفسه، تشير المؤلفة كذلك إلى رئيسة ليبيريا سيرليف (75 سنة)، فضلاً عن موغابي رئيس زمبابوي الذي عرفه مواطنوه في الأزمنة القديمة بوصفه ناشطاً شاباً في حركة تحرير بلاده من سيطرة الاستعمار الإنجليزي، ولكنه حالياً تعدى الثمانين، ولا يزال قابعاً في كرسي الحكم، شأن السيد موسيفيني الذي ظل في موقعه الرئاسي في أوغندا منذ عام 1986، أي قبل أن تولد الأغلبية من سكان البلاد ذاتها، كما تضيف مؤلفة الكتاب، التي تقول أيضاً إن بول بيا رئيس الكاميرون يبلغ الآن الحادية والثمانين، فيما ظل في موقعه الرئاسي في ياوندي منذ عام 1982.
ثم تواصل الكاتبة إطلالتها التحليلية على تطورات الأمور في مناطق شتى من القارة الأفريقية، ولأنها تصدر في سطور الكتاب عن منطق نراه مستجداً، حيث لا تكتفي بإطلالة عن بعد ولا إطلالة من فوق بقدر ما أنها تحاول أن تنفذ إلى أعماق الواقع الأفريقي، لا في دولة بعينها، ولكن على صعيد العديد من أقطار القارة التي تنتمي إليها المؤلفة في جذورها وأصولها. من هنا، فلم تكتف المؤلفة بمجرد توصيف العلل أو تشخيص الأدواء، ولكنها تعرض في الوقت نفسه نموذجاً زارته وتعمقت أبعاده وعمدت إلى تقديمه لقارئي كتابها.
الجمع بين بساطة المسلك والدلالة
تدعو المؤلفة في ختام كتابها، إلى تأمل صورة تجمع في رأيها، بين بساطة المسلك وعمق الدلالة: هي صورة نساء رواندا اللاتي عايشتهن المؤلفة وقد ارتدين الزي الموحد وهن يواصلن كنس وتنظيف كيغالي عاصمة البلاد، بنفس الحمية والعناية التي يكنسن بها بيوتهن على نحو ما تقول. وتتعدد الصور الإيجابية بقدر اتسامها بمثل هذه البساطة، لكنها تعكس في مجموعها روحاً من الأمل، تومئ في بلاغة إلى معنى مستجد تماماً في أحوال أفريقيا، وهو: إن التخلف ليس قَدَراً محتوماً على القارة السمراء، وأن أفريقيا، بشبابها وإمكاناتها يمكن أن تكون قارة الوعد، كما قد نسميها، أو قارة الضوء واللمعان، كما يحرص على تسميتها عنوان هذا الكتاب.
المؤلفة
الذين يتابعون التطورات والمستجدات التي لا تفتأ تطرأ على الواقع الأفريقي- خاصة قارة أفريقيا السمراء جنوبي الصحراء الكبرى- كثيراً ما يطالعون اسم دايو أولوبادي مؤلفة هذا الكتاب. جذورها أفريقية ترجع إلى دولة نيجيريا في وسط القارة، أما تعليمها فقد استكملته في الولايات المتحدة. وهي مقيمة حالياً في نيويورك، حيث تحترف الكتابة الصحافية. وتعكس أصولها الأفريقية، فضلاً عن لون بشرتها هذه الجذور، وهي تشكل قيمة مضافة إلى سيرتها الفكرية والمهنية.
تأليف: زهرة بابار، سوزي ميرغني
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مؤسسة مارينز بوكس، نيويورك، 2015
عدد الصفحات: 273 صفحة