يعد هذا الكتاب ثمرة من ثمرات الصحافة الاستقصائية، بعد أن عكف مؤلفه الكاتب الصحافي الإنجليزي توم بيرغيس على القيام بما يشبه رحلة فكرية استقصائية في فيافي الموارد الطبيعية بالغة الثراء في القارة الأفريقية، مع تركيز ملحوظ على منطقة غربي القارة وجنوبها، وهي الرحلة التي أتاحت للمؤلف أن يتدارس ظاهرة التناقض الذي تعيشه، بل وتعانيه القارة السمراء، بين ثراء الإمكانات التي أهدتها الطبيعة إليها، وبين أحوال الفقر المدقع والتخلف الشديد التي ما برحت تعانيها شعوب القارة الأفريقية.

ويعزو المؤلف أبعاد هذا التناقض، إلى ما تتعرض له القارة على يد ما يصفه الكتاب بأنه آلة النهب، التي ما برحت تقوم على تشغيلها عناصر من الأقلية (الأوليغاركية) الانتهازية من الصفوة الأفريقية النافذة، أو المؤثرة في العديد من نظم الحكم والإدارة بالقارة السمراء..

إضافة إلى علاقات المصالح التآمرية بين تلك الأقليات، وبين عناصر غريبة على أفريقيا، يتوقف الكتاب عند بعضها، ما بين ملياردير إسرائيلي استطاع أن يسيطر على تعدين وتجارة الماس في الكونغو الديمقراطية، إلى رجل أعمال صيني أصبحت له كلمة نافذة في ساحة الأنشطة النفطية، وما في حكمها في أكثر من دولة أفريقية.

في الفترة 1884 - 1885، تردد في جنبات القارة الأوروبية، عنوان كان مؤلفاً من كلمتين لا أكثر، وهما: مؤتمــر برلـــين، وهو الاجتماع الذي تولى الدعوة إلى انعقاده مستشار ألمانيا العتيد أوتو بسمارك (1815 - 1898)، المعروف بلقب الرجل الحديدي، فيما ضم المؤتمر المذكور جميع القوى الأوروبية الفاعلة أيامها، وكان في مقدمها بطبيعة الحال، كل من فرنسا وإنجلترا، إلى جانب إسبانيا والبرتغال وغيرها.

في أجرومية التاريخ، لا يزال مؤتمر برلين المذكور أعلاه، يحمل الوصف، أو فلنقل الوصم التالي: مؤتمر التسابق على أفريقيا، لأن هذا التجمع الأوروبي كان ساحةً لتقسيم الغنيمة التي حملت، ولا تزال تحمل، اسم أفريقيا.

 وقد قسّمها الفرقاء في ما بينهم، وهو ما جاء متوازياً مع استشراء المد الإمبريالي، الذي دفع العديد من القوى الاستعمارية الأوروبية إلى احتلال واستغلال القارة السمراء، بعد أن خلعوا عليها وصف العذراء، لا من باب الإطراء أو الإشادة بالبراءة أو النقاء، ولكن من باب الكناية - الاستعمارية طبعاً- بأن أفريقيا ما برحت تحفل بثروات في باطن الأرض وفوق سطحها، ومنها ثروات لم تجد بعد من يكتشفها، ولا من يطرحها نهباً لقوى الطمع والاستغلال.

وبرغم أن أفريقيا عاشت مع انتصاف القرن العشرين - عام 1960 بالذات- ما يصفه المؤرخون المحدثون بأنه مدّ الاستقلال والانعتاق من نير الاستعمار، إلا أن هذا التحرر السياسي الذي حمل العديد من عناصرها الوطنية إلى مقاعد السلطة ومقاليد الحكم، هذا الاستقلال السياسي لم تواكبه، كما ينبغي، أجندة الاستقلال الاقتصادي والتقدم والعدل الاجتماعي، للأسف الشديد.

آلــة النهــب

والسبب يكمن ببساطة في ما يصفه كتاب جديد صادر منذ أشهر قليلة بعنوان رئيس لافت، بل هو عنوان صادم، إذا جاز التعبير، وتلخصه العبارة التالية:

«آلـــة النهـــب». وقبل أن يتساءل القارئ عن المقصود بهذه الماكينة الجهنمية، يبادر المؤلف إلى تفسير المقصود في العنوان الفرعي لهذا الكتاب الجديد، على نحو يقول بما يلي: بارونات الحرب، جماعات (أو نخبة) الأقلية، الشركات (الاحتكارات العولمية)، المهربون، ثم يختتم عنوان الكتاب بعبارة بالغة الدلالة، بشأن علاقة كل هذه العناصر المدمرة المذكورة أعلاه، بالآفة التي يصفها المؤلف في ختام هذا العنوان الفرعي، بأنها سرقة ثروات أفريقيا.

لا عجب والحالة هذه، أن يكتب البروفيسور هوارد فرنش أستاذ الصحافة في جامعة كولومبيا الأميركية، واصفاً محور هذا الكتاب، تحت العنوان التالي: سرقة أفريقيا، وكيف يتآمر كل طرف على إبقاء القارة أسيرة التخلف.

النغمة الافتتاحية لمباحث هذا الكتاب، تكاد تلخصها في تصورنا العبارة الوصفية التالية: «الفقــر رغــــم الوفــــرة».

وراء الكواليس

في هذا السياق، يعمد مؤلف الكتاب إلى عرض وتحليل ما يصفه بأنه الاتفاقات السرية التي يتم إبرامها خلف الكواليس أو تحت الطاولات، بين طغمة النهّابين، كما يسميهم، وبين دول الظل، كما يصفهم أيضاً. وهذه الدول يتشكل قوامها ممن يصفهم المؤلف بأنهم قلة قليلة من أهل النخبة الأفريقية، الذين أصبحوا لا يخدمون سوى مصالحهم الذاتية، وهي مصالح أنانية شريرة، ومدمرة لمصالح أغلبية الشعوب التي ينتمون إليها.

وعلى وجه التحديد، وبقدر ملحوظ من التفاصيل، يلقي المؤلف، أضواء على ما تشهده أقطار أفريقية، مثل غينيا وأنغولا والكونغو الديمقراطية وزيمبابوي، حيث يقف ملياً عند الصفقات المريبة التي يتم عقدها بليْل، كما يقولون، بين بعض أفراد النخبة المتميزين - النافذين في تلك الأقطار، وبين شركاء وعملاء سريين قادمين من خارج القارة، وخاصة من الصين وإسرائيل..

كما يضيف مؤلفنا، ومن خلال هذه الاتفاقات السرية، إذا بالأصول الثمينة التي تملكها شرعاً قارة أفريقيا، وقد تحولت إلى حيث تصبّ في صالح كبرى شركات النفط والتعدين، إضافة إلى مراكز التمويل العالمية الكبرى. ولكن لقاء كسْر، مجرد كسْر بسيط، من قيمتها الحقيقية، فيما تظل الحقيقة المجسدة على أرض أفريقيا، هي استمرار معاناة الفقر والظلم الاقتصادي- الاجتماعي..

وهو ما يشعل نيران الصراعات على ما تبقّي من موارد القارة، وهذا الاشتعال يتم على شكل حروب أهلية، سواء بين النظم السياسية الحاكمة وبين الجماعات المسلحة، أو في ما بين الجماعات المسلحة ذاتها، وهي التي لا تزال تفرّق بينها اختلافات عرقية وطائفية وقَبَلية وغيرها.

لا عجب أن أفريقيا، بكل ثرائها، من حيث الموارد والإمكانات الكامنة، أو فلنقل بكل بكارتها التي جعلت معظم هذه الإمكانات بعيدة حتي الآن عن الاستغلال، وبالتالي، عن النفاذ أو الاستنزاف، أفريقيا لا تزال قابعة عند أدنى المراتب من حيث التنمية الاقتصادية، يشهد بهذا، المثال التالي، الذي تسجله سطور كتابنا: إن نصيب القارة السمراء في مجال الصناعات التحويلية في عام 2011، لم يزد على واحد في المئة فقط لا غير، علماً بأن هذه النسبة لم ترتفع من قريب أو بعيد منذ عام 2000.

الأمثلــة عديدة

هنالك كانت النتيجة، هي أن العديد من أقطار أفريقيا ما زالت فريسة للتخلف والتعاسة، برغم أن من أقطارها ما لا يزال محظوظاً بسخاء الثروة الطبيعية، التي كانت كفيلة بتحويل حياة سكانه إلى الأفضل والأكثر جدارة بكرامة الإنسان. والأمثلة عديدة، على نحو ما يسوقها أيضاً مؤلف هذا الكتاب:

- أنغولا ونيجيريا، تضمّان ثروة النفط البالغة السخاء.

- الكونغو الديمقراطية المحظوظة بركازات الماس الثمين.

- غينيا وثروتها الفريدة من معدن البوكسيت.

- النيجر، وهي محظوظة بالذات بمناجم اليورانيوم اللازمة- كما هو معروف- في الصناعات النووية. لكن، ها هو الكتاب يصف أحوال تلك الدول المحظوظة، بأنها لا تزال هي الأفقر بين مجموعة الدول الأفريقية، بعد أن تعرضت صناعاتها المحلية إلى الانسحاق، بفعل عمليات النهب والتآمر والاستنزاف.

الإسرائيلي الغامض

في هذا السياق بالذات، يحرص مؤلف كتابنا على طرح نموذج شرير من نماذج نهب الثروات الأفريقية. النموذج - يقول الكتاب- يحمل الاسم التالي:

دان غيرترلر، مغامر إسرائيلي، عمد منذ التسعينيات إلى التقرب من أفراد الطبقة الحاكمة في الكونغو. بدأ بحركة مظهرية بارعة، حين أعلن تبرعه بمبلغ 20 مليون دولار لصالح صندوق الحرب. وكما هو متوقع، فقد كافأوه في المقابل بمنحه احتكاراً يبيح له أن يشتري كل قطعة من الماس يتم استخراجها من أراضي الكونغو. وبديهي أن أصبح الإسرائيلي إياه من طبقة المليارديرات..

ثم جاءت النتيجة التي رصدها مؤلف كتابنا على النحو التالي: بين عامي 2007 و2012، استطاعت صناعة استخراج وتعدين الماس في الكونغو، أن تدّر مبلغ 41 مليار دولار، لكن الذي نال الكونغو من هذا كله، لم يزد على نسبة 2.5 في المئة فقط لا غير، هي التي وجدت طريقها - على استحياء في تصورنا- إلى بنود الميزانية الضئيلة للبلد الأفريقي المذكور.

لا يفوت المؤلف أيضاً أن يتوقف ملياً عند شخصية أخرى، يكاد صاحبها يقوم على أمر شبكة واسعة وخطيرة تعمل على استغلال ثروات أفريقيا، عبر العديد من أقطارها، الإشارة هنا إلى سام با، وهو رجل أعمال صيني، يصفه المؤلف بأنه شخصية متعددة من حيث الاسم والماضي، أنشأ مؤسسة تحيطها ظلال الشبهة في هونغ كونغ، ولكنه أفلح في استغلال علاقاته مع أركان الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، كي يبرم صفقات بالغة التعقيد في أنغولا والكونغو وغينيا وسيراليون وزمبابوي.

من ناحية أخرى، ثمة من يأخذ على مؤلف هذا الكتاب، أنه عرض الأمراض، دون أن يتحول إلى وصف العلاج.

وفي تصورنا، أن منهج العرض والتشخيص يمكن أن يكون كافياً من أجل استرعاء الأنظار والاهتمامات إلى العلل التي لا تزال تصيب بنْية القارة الأفريقية، وتنعكس بكل سلب على جماهير شعوبها.

ثم إن المؤلف أحسن كثيراً، عندما خلص مع نهايات كتابه إلى مبدأ إيجابي، قال فيه: التعدين في حد ذاته ليس مرادفاً للسلب أو النهب بالضرورة، بل إن مستقبل أفريقيا مرتبط حقاً بنشاط الصناعات الاستخراجية، وكل ما نطالب به، هو أن تصبح هذه الأنشطة الصناعية خاضعة للدرس والتحليل والفرز والتمحيص، بحيث تدّر المبالغ المستحقة من العائدات..

وتضع المصلحة الوطنية- القومية لجموع الناس، في مرتبة سابقة على المصالح الضيقة لأطماع الأفراد من النخبة محدودة العدد بين هذه الجموع، تستوي في ذلك أنشطة وصناعات شتى، ما بين استخراج واستغلال النفط والغاز والماس، إلى أخشاب ومنتجات الغابات في طول القارة الأفريقية وعرضها، على السواء.

معهد للبحوث يفضح أسرار النهب

مشكلة أفريقيا مع آلة النهب، على نحو ما توضح الطروحات الاستهلالية من هذا الكتاب، تتمثل في أن آلة النهب الشريرة سبقتها، في الحالة الأفريقية، آلة خبيثة أخرى. إنها آلة التبرير والتكييف أو التسويغ.

يتابع مؤلفنا بدايات التبرير، الذي سادت شعاراته في أعقاب مدّ الاستغلال السياسي في أفريقيا، على مدار الستينيات من القرن العشرين، موضحاً ما يلي:

لقد دارت آلة التبرير، فقالت أولاً إن سبب تخلف أفريقيا هو الاستعمار، وكان هذا مقبولاً في ذلك الحين، ولما تساءلت شعوب القارة السمراء عن السبب في أن الاستقلال السياسي لم يترجَم إلى أحوال أفضل للفقراء والبؤساء والتعساء في طول القارة وعرضها، بادرت تروس التبرير إلى رفع شعار آخر، هو: السبب هو الحرب الباردة (بمعنى الصراع الذي كان مندلعاً وقتها بين معسكري الشرق (الروسي) والغرب (الأميركي).

ثم ماذا بعد أن أصبح الاستعمار ماضياً، كما انتهت الحرب الباردة منذ مطالع تسعينيات القرن المنصرم؟ من هنا، صيغت عبارة يقصد بها الاقتصاديون - كما يشير كتابنا- إلى تبرير، أو محاولة تبرير، تناقضات الوضع الأفريقي الراهن، والعبارة هي: «لعنـــــــة المــــــوارد».

هنا أيضاً يعمد مؤلف الكتاب إلى تبنّي وتأكيد التفسير الأفريقي الصريح لهذه اللعنــة، وهو تفسير طرحته أخيراً مؤسسة أكاديمية رصينة، تحمل اسم المعهد الأفريقي للبحوث.

والتفسير يعبر - كما قد نتصور - عن لسان حال أبناء أفريقيا، حين يقولون: انظروا إلى ظاهرة العولمة وآثارها في مرحلتنا الراهنة، ها نحن نتابع ونشهد كيف أن ثروتنا من المعادن أصبحت تتحول إلى سبائك ومواد، تصّب في الهواتف المحمولة وما في حكمها من أجهزة وأدوات، في طول العالم ..

وعرضه، فيما أصبح بترول أفريقيا محمولاً على متن الناقلات، كي يصّب بدوره في محطات الوقود في عواصم العالم كله، أما أهل أفريقيا، شعوبها من أصحاب الأرض التي تحوي هذه المعادن، وتضم ثروات البترول، فلا يزالون يرسفون في أغلال الفقر، وقيود الظلم والتعاسة والحرمان.

المؤلف

الكاتب الإنجليزي توم بيرغيس، بدأ حياته مراسلاً حراً متنقلاً ما بين التخوم الغربية في القارة الأفريقية، إلى أصقاع شيلي في أميركا الجنوبية. و ظل يراسل صحفاً ذات سمعة دولية، مثل الديلي تلغراف والغارديان والديلي ميرور في بريطانيا.

ولأن الكاتب اختارته في الآونة الأخيرة صحيفة «الفاينانشيال تايمز» مراسلاً لها في منطقة غرب أفريقيا، فقد آثر أن يركّز كثيراً من جهوده على الجوانب الاقتصادية.