يجمع هذا الكتاب بين رؤية استمدها المؤلف من واقع تجربته المباشرة، وخاصة في ميادين الصراع بالقارة الإفريقية، وبين عملية الرصد العلمي والتحليل المتعمق للظاهرة التي يستعيد بها عالمنا سلوكيات اتسمت بها في زمان بعيد حقبة القرون الوسطى، وتمثلت في استخدام عناصر المحاربين العاملين بالأجر، وهي عناصر المرتزقة الذين طالما اعتمدت عليهم الممالك والإمبراطوريات في خوض ما تعيّن عليها أن تخوضه من معارك ومواجهات عسكرية عبر ذلك التاريخ.
بيد أن الكتاب يتحول في دراسته إلى أهم استخدامات شهدها عصرنا الراهن لعناصر المرتزقة العسكريين من خلال ظاهرة يضفي عليها الكتاب اسم الارتزاق الحديث حيث يعزو الكتاب آفة الارتزاق العسكري والمحاربين المرتزقة إلى أيام القرون الوسطى مؤكداً في نفس السياق على أن معاودة استخدام شركات المقاولات العسكرية وعناصر المتعاقدين من أجل تقديم خدمات الأمن والاستطلاع والاشتباك في ساحات الصراع، هي ظواهر تمثل ما يصفه المؤلف بأنه النيوقروسطية بمعنى العودة إلى ظلمات العصور الوسطى .
وبعد أن يسوق الكتاب نموذجاً يراه إيجابياً من استخدام شركات التعاقد العسكرية في ليبيريا، ونموذجاً آخر يراه سلبياً في الصومال، يلمح إلى أن ثمة بلداً كبيراً بدأ أخيرًا في التعاقد مع الشركات الأميركية للمقاولات العسكرية، وهو الصـين.
كان ذلك عند فاتح عقد الستينات من القرن العشرين. كان الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور (1890- 1969) يستعد لمغادرة موقعه الرئاسي في البيت الأبيض بعد انتهاء ولايته الدستورية، هنالك أدلى بتصريح لايزال يشكل منعطفاً محورياً في مسيرة أميركا، وقد حشد فيه الرئيس- الجنرال وبإيجاز شديد كل معارفه وخبراته بسياسة بلاده من جهة ثم بمستقبل التطورات في العالم من جهة أخرى. يومها قال أيزنهاور: سوف تظل السطوة الأولى في الولايات المتحدة بيد المجمع العسكري- الاقتصادي.
وكان المعنى الجوهري من هذه العبارة يتمثل في أن القوى الغالبة على مستوى القطب الأميركي، وربما الغربي، سوف تكون من نصيب التحالف الوطيد الذي يضم الدوائر العسكرية مع الدوائر الاقتصادية، وهو ما تطّور إلى قيام تحالف بين الجيوش والشركات عبر الوطنية والمؤسسات المتعددة الجنسيات.
ورغم أن العالم كان قد ذاق يومها ويلات حرب عالمية ضروس استغرقت الست سنوات الفاصلة بين عامي 1939 و 1945، وبعدها تصّور الناس إن كان ذلك الصراع العالمي الدموي كفيلاً بدرس مستفاد تستوعب الإنسانية عبرته فلا تعاود إشعال الحروب مرة أخرى، إلا أن أحوال عالم ذلك الزمان جاءت تطوراتها لتؤكد العكس، في فاتح الخمسينات اشتعلت الحرب الكورية، وخاضت أميركا غمارها، ومع مطلع الستينات اشتعلت حرب فيتنام وخاضت أميركا غمارها، هذا فضلاً عن حروب، مصغرة كما قد نصفها، كما حدث مثلاً في مناطق مثل غواتيمالا أو السلفادور أو غرينادا من أصقاع أميركا الوسطى، المطّلة على مياه البحر الكاريبي جنوبي القارة الأميركية الشمالية.
بين الخصخصة والمأسسة
في كل حال، فقد ظلت تطورات الأحداث، عبر سنوات الثلث الختامي من القرن الماضي، تؤكد سطوة المجمع الصناعي- العسكري الذي تنبأ به الجنرال أيزنهاور.
ثم أضيف إلى هذا التحالف عنصر آخر يُجسد فيه عاملين أساسيين هما:
(1) الخصخصـــة
(2) المأسســـــــــــة
بمعنى أن دخلت صناعة الحرب وحرفة الصراع العسكري ضمن إطار القطاع الخاص، بعيداً عن أنشطة الدول وسلطة الحكومات، فيما تم إضفاء الطابع المؤسسي- التنظيمي على هذه الأنشطة العسكرية الخاصة.
وكانت البيئة متهيئة قرب نهاية عقد التسعينات لترجمة هذه التطورات المستجدة إلى واقع عملي، دينامي ومؤسسي في آن معاً.
وهذه هي البيئة والظروف التي انطلق منها ضابط أميركي سابق اسمه إيريك برنس، بعد انتهاء خدمته في فرقة الغوص البحرية بالقوات الأميركية المسلحة إلى حيث أنشأ في عام 1997 جماعة عسكرية أطلق عليها اسماً غريباً وهو: المياه السوداء (بلاكووتر في الأصل الإنجليزي).
اتخذت الجماعة مقرها في ولاية فرجينيا القريبة من العاصمة واشنطن وجاء تصنيفها الرسمي على أنها مقاول متعهد بتقديم الخدمات الأمنية الخاصة، مع ما يتصل بذلك من خدمات عسكرية في مجالات التدريب والاستطلاع وخوض القتال في أي موقع بالعالم.
الجيوش الخاصة والمستقبل
وهذا هو المنطلق الذي ظل يصدر عنه موضوع الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور، حين اختار له المؤلف عنواناً رئيسياً يمكن ترجمته على النحو التالي: الارتزاق الحديث، ثم يتضح مغزى العنوان من خلال تفصيل آخر يورده المؤلف كما يلي: الجيوش الخاصة وماذا تدل عليه بالنسبة للنظام العالمي.
في المواضع الاستهلالية من هذا الكتاب، يذهب مؤلفنا إلى أن حرب أميركا في ساحتي أفغانستان والعراق خلال السنوات الأولى، كما هو معروف من هذا القرن الجديد هي التي شهدت وأدت إلى التغيير الجذري في مفاهيم إدارة التدخل العسكري الأميركي. وقد تجسد هذا التغيير في ظاهرة التوسع في استخدام عناصر المتعاقدين (بمعنى المرتزقة) التابعين بحكم التعريف- لشركات الخدمات القتالية والأمنية والعسكرية الخاصة، وكان في مقدمتها شركة بلاكووتر، بطبيعة الحال.
هنا يرى المؤلف أنها كانت المرة الأولى التي مارست فيها أميركا عمليات القتال، لا بخوض غمراته، ولكن بالتعاقد المتوسع على خوض تلك الغمرات، وبمعنى أن كان عدد المستخدمين الموظفين- المتعاقدين يفوق بكثير عدد الأفراد الملتحقين رسمياً أفراد الزي العسكري الرسمي- المشروع إن شئت من عناصر الجيش الأميركي.
ارتفاع نسبة المرتزقة
تسجل فصول الكتاب أنه خلال حرب فيتنام، في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، كانت نسبة المتعاقدين من عناصر المقاولات المرتزقة الخاصة لا تتجاوز 20 في المائة من مجموع العناصر الرسمية الأميركية الموجودة في مسارح عمليات جنوب شرقي آسيا: وما لبثت هذه النسبة أن ظلت في ارتفاع إلى أن غلبت عناصر المرتزقة على العناصر الرسمية، ولدرجة أن ظل العالم يتسامع عبر سنوات غزو العراق بسلسلة الفضائح التي ارتكبها المرتزقة التابعون لشركات التعاقدات والمقاولات الحربية بحق المواطنين من أهل الرافدين، وكان أخطرها ما شهدته ساحة النسور في العاصمة بغداد عندما أقدمت فلول هؤلاء المرتزقة على اغتيال 17 من المدنيين في البلد العربي الجريح، ثم ظلت القضية وذيول فضائحها تراوح مكانها إلى أن حلّ شهر إبريل من عام 2015 الحالي، أي بعد نحو 8 سنوات من واقعة القتل بدم بارد. ويومها أصدر قاض اتحادي في واشنطن أحكاماً بالسجن المطوّل على أربعة من الحراس الذين كانوا تابعين مرتزقة بالطبع- إلى شركة بلاكووتر التي سبق وألمحنا إليها.
بين ليبيريا والصومـل
في محاولة لاتباع منطق التحليل الموضوعي، يذهب مؤلف الكتاب إلى أن استخدام الكيانات أو حتى شركات المقاولات العسكرية الأمنية المنتمية إلى القطاع الخاص لا يشكل في المطلق آفة الشر المستطير على طول الخط. ورغم أنه لم يتردد، في تصورنا، في أن يكون محامياً للشيطان، كما يقول التعبير الشائع، إلا أنه يصدر عن مصداقية مستمدة من خبرته الشخصية حين يميز بين تجربة استخدام تلك الشركات الخاصة في اثنتين من ساحات الصراع في قارة أفريقيــا.
في الحالة الصومالية: انسحبت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في عام 1995، وبعدها تأججت الصراعات الدموية بين العناصر المحلية والمناطق الجهوية في البلد الإفريقي. وإزاء ضعف حكومته المركزية في مقديشو بدأ استئجار وتشغيل شركات المقاتلين المرتزقة التي دأبت على تهريب السلاح سراً، ضاربة في ذلك عرض الحائط بقرارات حظر الأسلحة، التي كانت قد صدرت عن المنظمات الدولية. ورغم محاولات إنشاء، أو إعادة إنشاء، جيش وطني، فقد كان لاستضعاف وأحياناً لغياب الحكومة المركزية في الصومال أثره في إصابة هذه المحاولات بالإحباط، مما أدى بدوره إلى استمرار حالة الاضطراب أو الفوضى في الصومال.
ثم تخلص مقولات الكتاب إلى أن نخبة الساسة في أميركا وصفوة مخططيها ظلت تتحول إلى استخدام منظمات المقاولات العسكرية المأجورة من باب الانصياع إلى دعاوى الخصخصة من جهة ومن باب اتباع مقولات التعهيد، أو الاستعانة بالمصادر والعناصر الخارجية (Outsourcing) من جهة أخرى، خاصة وأن تلك الشركات مازالت تطرح خدماتها تحت الطلب، كما يقولون.
ثم إن الخدمات العسكرية الجاهزة تحت الطلب مازالت تشكل إغراء كما يخلص المؤلف- لصانع القرار الأميركي لأنها تعفيه من جهود الإقناع والدعوة للشعب الأميركي وحشد صفوفه خلف قرار خوض الحرب. صحيح يضيف المؤلف- أن هناك ثمناً مدفوعاً من سوء السمعة في بعض الأحيان مقابل استخدام أو استئجار شركات المرتزقة لتقديم خدماتها وهو ما حدث بالنسبة لشركة بلاكووتر وملابسات جرائمها ومحاكمة عناصرها، لكن الحاصل أيضاً أن إريك برنس مؤسس بلاكووتر ما لبث أن أعرب بدوره عن ندمه لأنه تعاقد مع الخارجية الأميركية في هذا المجال.
أخيراً لابد وأن نقف بكثير من التأمل إزاء ما يثبته مؤلف الكتاب حين يقول: نعم. أعلن مؤسس بلاكووتر عن الندم، وهو يعمل الآن لصالح بلد آخر اسمه الصين (!)
المرتزقة يعودون بالعالم إلى العصور المظلمة
يرى المؤلف أن شركات مقاولات الارتزاق العسكري المعاصر مازالت تشكل خطورة فادحة على مجمل النظام العالمي الذي نعيش فيه. لمـــاذا؟
لأن سوق الطلب على القوة العسكرية في مرحلتنا الراهنة لايزال تحكمه قوانين الاحتكار، كما يصفها مؤلفنا، حيث يوجد بالذات مشتر يكاد يكون منفرداً، واسمه الولايات المتحدة، فيما يوجد في هذا السوق الكثير من البائعين.
ثم تأتي الظاهرة التي يكرر الكتاب تحذيراته منها عبر الفصول والصفحات. ومؤداها أن انسحاب أميركا من العراق أو من أفغانستان ازدادت معه أهمية شركات مقاولات الأمن. ولكن تتمثل الخطورة في أن تعمد قوى ودول أخرى إلى اتباع سبيل الاستسهال، فإذا بها تدخل كما يضيف المؤلف- لعبة التعاقد مع شركات المقاولات الخاصة. والأخطر أيضاً أن تفعل ذلك دول لها اعتبارها وأهميتها، مثل روسيا والصين، وهنا يبدأ العالم في تصور مؤلف الكتاب- في رؤية سوق أكثر تقبلاً أو أكثر توسعاً في الطلب على القوة العسكرية (بصرف النظر طبعاً عن مصدرها وعناصرها فضلاً عن وجوبها أو مشروعيتها).
ثم ماذا عن نتيجة هذا الاتجاه؟
هنا يجيب المؤلف موضحاً أنه سيكون في ذلك عودة إلى القرون الوسطى- تلك العصور المظلمة التي كان الجنود المرتزقة يحسمون فيها نتائج الصراعات فيما كانت الدول أيامها تقف، أو تكاد تقف على حواف خطوط السياسة المتبعة عبر أرجاء العالم.
هنا أيضاً يمعن المؤلف في التحذير إزاء ما يطلق عليه التوصيف اللافت التالي: العالم النيوقروسطي، تلك إذن صيغة مجددة تتهدد عالمنا الراهن بعودة إلى ظلمات وصراعات القروسطية وهو ما يعرض له المؤلف على النحو التالي: هو نظام يتخذ محوره من عناصر اللادولة فيما يشهد عالماً متعدد الأقطاب تتداخل فيه السلطات وتختلط على ساحته الولاءات فوق الرقعة الواحدة.
عناصر مأجورة لكل من يدفع
جاء إنشاء شركة بلاكووتر ليعيد إلى أوضاع العالم ذكرى كاد هذا العالم ينساها بكل ما احتوته دفاترها من سوء الذكريات. إنها دفاتر وحروب المرتزقة، المحاربين بالأجر، وهو المصطلح المرادف طبعاً لمن يرفعون السلاح بغير دافع إيجابي، سواء كان متمثلاً في حرب تحرير، أو نضال للاستقلال، أو حتى قتال لإنصاف المظلومين أو المستضعفين. من هنا جاز للباحث الأكاديمي والمحلل السياسي أن يستعيد مصطلح المرتزقة، ليصدق على شركات بيع وتأجير سواعد وعقول النشاط الحربي على يد عناصر عسكرية محترفة ومأجورة لكل من يدفع.
المؤلف
يعمل الدكتور سين ماكفيت ،مؤلف هذا الكتاب، زميلاً باحثاً أقدم في المجلس الأطلسي. ويعمل أيضاً أستاذاً للعلاقات الدولية في جامعة جورج تاون المعروفة باهتماماتها الأكاديمية بالشؤون الدولية، ومنها قضايا الوطن العربي على وجه الخصوص. وبحكم تجاربه في الميدان العسكري يعمل المؤلف كذلك أستاذاً في كلية الدفاع الوطني في الولايات المتحدة، خاصة وأنه كان منخرطاً على مدار سنوات في السلك العسكري في الجيش الأميركي.
تأليف: سين ماكفيت
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مطبعة جامعة اكسفورد، لندن، 2015
عدد الصفحات: 248 صفحة