على خلاف تواضع الكتّاب والمؤلفين ممن درجوا على طرح تنبؤاتهم على أسس من موضوعية علوم الاستشراف بالنسبة لتوقعات المستقبل، فإن هذا الكتاب يتميز باعتماد مساحة زمنية غير مسبوقة فيما نرى، بالنسبة لهذه النوعية من دراسات الاستشراف المستقبلي أو التنبؤات العلمية. والمساحة قوامها كما يتضح من مجرد عنوان الكتاب «100 سنة».

وهي بداهة معظم ما تبقى وأكثر من سنوات هذا القرن الحادي والعشرين. على أن المؤلف يعترف بما قد يلاحظه القارئ المتمعن منذ الوهلة الأولى، فضلاً عن تدارس مضامين الفصول السبعة التي تؤلف مادة هذا الكتاب، وهو أن التنبؤات إنما تصدر في جملتها عن منظور الولايات المتحدة الأميركية بالذات: موقعها القيادي، مصالحها القومية، تطوراتها في مجالات العلم والتكنولوجيا..

وهذه النظرة شبه المتفائلة إلى أميركا ومستقبل سكانها مع توالي السنوات والعقود الزمنية المقبلة، إنما تقابلها، عبر فصول الكتاب أيضاً، نظرات سلبية إن لم تكن متشائمة، إلى مناطق عدة أخرى من خارطة عالمنا، حيث تفيد توقعات الكتاب بمشكلات وصراعات وتغيرات في أساليب الحكم وتراجعات، بل وصدمات في الأوضاع الراهنة.

مع مغيب عام وشروق عام جديد، تدّب الحركة في بورصات التنبؤ وتُنصب أسواق ومراهنات التوقعات، منها ما يصدر عن أقوال المنجمين وقارئي الطوالع كما يسمونها، ومنها ما يحاول أن يتمسك بأهداب الدرس أو التحليل العلمي، وصولاً إلى ما يمكن وصفه بأنه الإسقاطات المحسوبة من واقع القراءة الموضوعية لمعطيات الواقع المُعاش.

وإذا كان المثل المتواتر يذهب بداهة إلى أن كَذَب المنجمون ولو صدقوا، فالواقع أننا لا نملك رفضاً لأي محاولات تبذل لاستقراء معطيات الآتي على أساس من الدرس المتأنّي والواعي لأبعاد الواقع، وذلك أمر يرتبط – كما أصبح معروفاً وشائعاً في مضمار السياسة – الدولية بالذات، ويلخصه طبعاً المصطلح الذي صار معروفاً وشائعاً وهو: السيناريوهـــــــات، وهي بدورها تنقسم حسب المتعارف عليه إلى ثلاثة:

• سيناريو التفاؤل.

• سيناريو التشاؤم

• سيناريو بقاء الأوضاع كما هي عليه.

وإذا كان من المنطقي، أو المألوف، أن يرسم الدارسون والمحللون السياسيون السيناريوهات التي يتوقعونها، مستخدمين في ذلك مسرحاً زمنياً، كما قد نسميه، يستغرق فترة زمنية لها أبعادها المعقولة، وهو ما فعلته منظومة الأمم المتحدة حين بادرت في القمة العالمية التي عقدها زعماء العالم في عام 2000، إلى طرح ما وصفوه يومئذ بأنه الأهداف الإنمائية للألفية..

وحددوا لها ميقاتاً زمنياً بحيث تبلغ محطته النهائية في عام 2015، فقد قررت أحدث قمة أممية من نوعها، وهي المعقودة في سبتمبر المنصرم، أن يكون حدها الأخير في رسم مستقبل العالم هو عام 2030.

ولأن التنبؤ ليس عليه جمرك، كما يمكن أن يقال، فها نحن نطالع كتاباً بالغ الطموح، بل هو جامح الطموح.

كتابنا الذي يصاحبنا في هذه السطور، لا يكتفي بطرح التنبؤات حتى عام 2030 تأثراً بالأمم المتحدة، ولا حتى عام 2050 على نحو ما يفعل بعض السوبر- طامحين من علماء المستقبليات أو خبراء الاستشراف.

100 سنة مقبلة

كتابنا يصدر عن نظرة أكثر طموحاً، أو حتى جموحاً كما ألمحنا، حيث اختار له مؤلفه الكاتب الأميركي جورج فريدمان العنوان التالي: المئة سنة المقبلة، ثم يردف المؤلف العنوان التالي: استشراف (تنبؤ) بالنسبة للقرن الحادي والعشرين.

وقبل أن يسترد القارئ أنفاسه من وقع، أو فلنقل من هول هذا العنوان، يسارع المؤلف إلى أن يقرن العنوان، حتى على غلاف الكتاب، برسم خيوط تربط بين حكاية المئة سنة المقبلة وبين ما سوف تحتويه الفصول الأربعة عشر التي تتألف منها مادة كتابنا، والخطوط الأربعة تحمل بدورها العناوين التالية:

1 - 2020.. الصين تتفكك

2 - 2050.. حرب عالمية تندلع بين أميركا وتركيا وبولندا واليابان - القوى العظمى الجديدة

3 - 2080.. الطاقة المستمدة من الفضاء الخارجي تزّود الأرض باحتياجاتها من الطاقة.

4 - 2100.. المكسيك تتحدى الولايات المتحدة.

وعلى سبيل الإيجاز يستهل المؤلف مقولات السيناريو بعيد المدى الذي يحاول أن يرسمه عبر صفحات زادت على المئتين والخمسين بأن يطرح ما يلي من تنبؤات:

• تنتهي حرب أميركا ضد عناصر الإسلام السياسي (يحّل المؤلف محل الحرب المذكورة اندلاع حرب باردة ثانية، وبكل معنى الكلمة بين أميركا وروسيا).

• تتعرض الصين إلى أزمة داخلية طاحنة يمتد أجلها لفترة طويلة خلال الزمن الآتي، فيما تنبثق المكسيك (جارة أميركا) بوصفها قوة عالمية لها أهميتها.

• ثم تشتعل حرب عالمية (عولمية) جديدة تتكشف معالمها، مع اقتراب حقبة منتصف هذا القرن – بين الولايات المتحدة وبين ائتلاف غير متوقع يضم أطرافاً في شرق أوروبا. إلى جانب أطراف من أوراسيا (روسيا وتخوم آسيا المجاورة لها) إضافة إلى أطراف من الشرق الأقصى، وإن كانت هذه الحرب المستجدة جديرة بأن تتسم بطابع أخف وطأة من حيث عوامل الهلاك.

• سوف تركز التكنولوجيا على الفضاء الخارجي، سواء لاستخدامه في الأغراض العسكرية أو استغلاله باعتباره مورداً درامياً (بمعنى حافلاً ومثيراً) للطاقة الجديدة، ما تترتب عليه آثار بيئية جذرية في طبيعتها.

• الولايات المتحدة سوف تشهد عصراً ذهبياً في النصف الثاني من القرن.

العنف والمستقبل

بديهي أن القارئ العربي، والشرق أوسطي أيضاً، يمكن أن يخامره شعور بالارتياح إزاء التنبؤ بالنهاية التي يتوقعها مؤلفنا جورج فريدمان للصراع مع تيارات التشدد أو التعصب الإسلاموي (يصفه المؤلف أحياناً بمصطلح الراديكالي أو مصطلح الأصولي في أحيان أخرى) وهو في كل الأحوال لايزال يشكل هاجساً أو وسواساً يستبد بوجدان المؤلف على مدار صفحات هذا الكتاب.

من ناحية أخرى، يبشر الكتاب أميركا بأنها ستظل في مكانة القوة العظمى على مدار هذا القرن الواحد والعشرين، حتى رغم خوضها ما يتوقعه من غمرات الحرب الباردة الثانية طبعاً ضد روسيا التي يتوقع الكتاب أنها سوف تبذل محاولات لتوسيع نطاق تأثيرها إلى وسط وشرقي أوروبا مقترناً..

كما يضيف المؤلف كذلك، بحرص موسكو على بناء وتصعيد قدراتها العسكرية وهو ما سوف يدفع واشنطن من جانبها إلى التماس علاقات وإنشاء صلات تربطها مع العـــديد مــــــن الدول في أوروبا الشرقية .

أما مواقيت الحرب الباردة الثانية المتوقعة، فيرصد الكتاب لها فترة العقد العشريني من هذا القرن، أي بعد أقل من عشر سنوات، مثلاً. ويضيف في هذا السياق أن هذه الحرب سوف تضع أوزارها، المستقبلية أيضاً، عندما تحل عوامل الاستضعاف في حياة الخصم الروسي المتوقع، وخاصة عندما تتعرض روسيا، كما يتنبأ المؤلف، إلى ضغوط اقتصادية ومن ثم سياسية مقترنة بتناقص في عدد السكان.

صورة المستقبل وتفاصيلها

يمضي المؤلف إلى قدر من تفصيل الصورة التي يتوقعها على النحو التالي:

• على الساحة الروسية تنال الشيشان الاستقلال. وربما تستقل شعوب إسلامية أخرى عن الحكم الروسي، وكذلك تفعل المناطق البآسيفيكية النائية المطلة إلى أقصى الشرق على المحيط الهادئ.

• على الصعيد الأوروبي يتنبأ الكتاب بأن تبادر فنلندا إلى ضم منطقة كاريليا التي ظلت فنلندية الطابع - كما تقول المراجع الموثوقة - حتى أربعينات القرن الماضي، حين ضمها إلى الاتحاد السوفييتي. ومن جانبها تبادر رومانيا إلى ضم مولدوفا.

أما على الساحة الآسيوية، والتنبؤات ما برحت دائرة على قدم وساق كما قد نقول، فالكتاب يطالعنا أيضاً بنبوءة استقلال التبت عن الصين بمساعدة من جانب الهند. أما في داخل الصين ذاتها، فالمؤلف يستبق الأوضاع حين يتصور أن جزيرة تايوان سوف يتسع نفوذها إلى داخل البر الصيني، أو الصين – الأم.

ولكن هذا النفوذ لن يتحقق أو يستشري إلا بمساعدة، أو مساعدات من جانب أميركا + الدول الأوروبية + اليابان، وكلها كما يصفها كتابنا قُوى تتطلع إلى أن تعيد خلق مناطق نفوذ لصالحها في أرض الصين.

نفس التوقعات السلبية يرى الكتاب أنها ستكون من نصيب منطقة الشرق الأوسط. وبديهي أن المؤلف يستمد بناء ورسم إسقاطاته المتوقعة من واقع الصورة المحزنة التي تعيشها وتكابدها حالياً منطقة الشرق الأوسط، شعوبها وحدودها وثقافاتها، فضلاً عن التعقيدات التي ما برحت تعانيها المنطقة الشرق أوسطية والعربية. سواء في جناحها المشرقي أو جناحها المغاربي - يستوي في ذلك مشكلاتها السياسية وجراحاتها الطائفية وأحوالها الاقتصادية.

تركيــــــا الغد

عند هذا الحد لا يخفي على قارئ هذا الكتاب مدى ما يصدر عنه المؤلف الأميركي من تحيز واضح، بحيث يسترعي النظر بل التوقف والتأمل أحياناً إلى بلد بعينه من بلدان الشرق الأوسط، وهو تركيا.

وهنا أيضاً يوضح المؤلف أن أنقرة سوف تعمل – وبدعم من الولايات المتحدة - على توسيع نطاق نفوذها لتصبح قوة إقليمية يحسب لها حساب، وكأنما تهدف إلى استعادة نفوذ الامبراطورية العثمانية التي كانت، وهي استعادة مألوفة في حوليات التاريخ الأوروبي، وطالما شغلت المؤرخين والأدباء.

بعدها يطرح المؤلف تنبؤاته، مضيفاً أن هذا النفوذ التركي المتوقع من شأنه أن يمتد في تصوّره إلى دواخل العالم العربي بحكم ما ستؤول إليه أحوال هذا العالم العربي، من إمعان في التجزئة والتشتت، وربما آفة التشرذم والانقسام. وبديهي أيضاً أن تعمد تنبؤات هذا الكتاب إلى انتشال إسرائيل من ذلك النفوذ التركي المتوقع مع العقود المقبلة من القرن الجاري.

وبحكم ما نصفه أيضاً بأنه جدلية الأحداث، لا يلبث مؤلفنا أن يسجل أيضاً في دفتر التنبؤات أنه مع ما يصفه من استشراء نفوذ تركيا في الشرق الأوسط وفي المقابل تصاعد نفوذ اليابان في الشرق الأقصى، فلسوف تشعر الولايات المتحدة بأن هذين النمطين من النفوذ من شأنهما تهديد المصالح الأميركية.

أخيراً، تتحول طروحات الكتاب إلى البشر، السكان (الفصل الخامس ويحمل عنوان التغير الديموغرافي). وهنا يتنبأ الكتاب بأن العقود المقبلة والمتوالية من انخفاض معدلات المواليد في الأقطار المتقدمة..

وخاصة في أوروبا، جديرة بأن تؤدي إلى تغيرات درامية في دنيا الثقافة والمجـــــتمع، بل وإلى تحـــولات سياسية تشهدها سنوات النصف الأول من القرن وخاصة أعوام العشرينات والثلاثينات، ولدرجة يقــول معـــــها الكتاب ما يلي: خلال تلك الحــــقبة سوف تشرع دول الغرب في التنافس عـــلى استقبال، المهاجرين (!).

الصين .. تحولات و ضغوط داخلية

الصين لها أسلوب آخر في تعاملات الصفحات العديدة من كتابنا والتي تحاول القفز إلى آفاق المستقبل.

هنا لا يملك مؤلفنا سوى الاعتراف بمسيرة الصين التي ما برحت متواصلة وظــــافرة في التقدم الاقــــتصادي والمعيشي منذ عام 1980 وما بعــــده. لكنه يذهب إلى أن الصين كفيلة بأن تعيش أو تواجه ما يمكن أن نطلق عليه من جانبنا العنوان التالي: جــــــدل التقــــــدم، بمعنى أن التقدم له مغارمه وضرائبه، حيث يؤدي إلى تحولات..

ومن ثم إلى ضغوطات داخلية يعاني فيها المجتمع الصيني من عوامل اللامساواة بين الشرائح والنُخَب والطبقات، ومن ثم إلى انتشار أحوال من شعور الغبن أو الظلم الجهوي بين مختلف مناطق وأصقاع الوطن الصيني الكبير، وحيث يظل الفارق صارخاً بين مناطق تنعم بالرخاء وأخرى تكابد آفة الفقر ومسغبة الحرمان، وخاصة في دواخل الصين ومناطقها النائية.

وهنا يتنبأ كتابنا بأن المحصلة سوف تتلخص صينياً في أن الحكومة المركزية، ومن ثم قبضة الحزب الوحيد الحاكم، سوف تتراخى وتواجه تحديات، فيما تتجه بعض المناطق المحرومة والمغبونة إلى إقرار حكم محلي قد يصل – حسب توقعات الفصل الثاني من كتابنا - إلى إعلان نوع من الحكم الذاتي في بعض الأحيان.

هنا لا يتورع مؤلفنا عن رسم أو تركيب مسرح مستقبلي لأحداث العقد العشرين المقبل من هذه الألفية الثالثة وعلى النحو التالي:

إذا ما كُتب الانهيار أو التضعضع على أدوات الحكم في روسيا، ثم على سلطة الحزب في البر الصيني فالأمر يومئذ يؤول إلى أن تضرب الفوضى أطنابها في ساحة أوراسيا بشكل عام، وهو ما قد يترجم نفسه على شكل انطلاق العديد من القوى الإقليمية سواء إلى الانفصال بالاستقلال، أو إلى سيادة واتباع منطق الضمّ والإلحاق أو إلى اكتساب المزيد من حيث الفعالية وسطوة النفوذ.


تأليف: جورج فريدمان عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة دبْلِداي، نيويورك، 2016

عدد الصفحات:

354 صفحة