يحتاج الإبحار في عوالم الروائية والناقدة والأستاذة الجامعية المصرية الدكتورة رضوى عاشور، إلى مركب معد جيدا، ومجهز بأكثر من شراع، وبكل أنواع الموارد المعرفية اللازمة والتي تطلبها طبيعة هذه التجربة الأدبية والأكاديمية، وحتى الاجتماعية، وذلك لتنوعها في بعديها، الزماني والمكاني. وكذلك الفكري، وخاصة النقد الأدبي.

في حوار أجراه "مسارات"، مع د.رضوى عاشور، عندما قدمت إلى دبي، اخيرا، لاستلام جائزة مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية - حقل القصة والرواية والمسرحية:(جوائز الدورة الثانية عشرة) ، دار الحديث حول الأدب والنقد الأدبي والأسرة والمرأة والربيع العربي، ومشاركتها في الثورة المصرية، وعلاقتها بالقضية الفلسطينية.

لنبدأ بروايتك الأخيرة "الطنطورية".لماذا "الطنطورية" في هذه اللحظة بالذات؟

" الطنطورية" نسبة إلى قرية الطنطورة التي تقع على الساحل الفلسطيني، وتبعد نحو 20 كم عن مدينة حيفا. وقد واجه أهلها في مايو عام 1948 هجوما عنيفا من العصابات الصهيونية، ودافعوا عن قريتهم وقاوموا ذلك الهجوم الشرس ببسالة، لكن القوة الصهيونية الغازية كانت مسلحة تسليحاً مختلفا، فانتهت المعركة بهزيمة المقاومين وحدثت مجزرة كبيرة في هذه القرية وتم ترحيل أهلها، مجزرة تكاد تضاهي بحجمها وشراستها ومأساويتها، مجزرة دير ياسين. الرواية تحكي عن امرأة من قرية الطنطورة، وتتبع حياتها منذ صباها.

وقد خرجت من القرية بعد مشاهدتها لتلك المجزرة، وأنا أتتبعها في مختلف بلدان الشتات إلى جنوب لبنان وإقامتها في صيدا ثم بيروت وبعدها إلى الخليج، وثم إلى الاسكندرية، والعودة إلى صيدا، وهي رواية أجيال تتوالد من الأجداد إلى الأولاد إلى الأحفاد إلى أولاد الأحفاد.

رواية تمزج المتخيل بالوثاثق، والأحداث المفصلية في الرواية كلها حقيقية، فعندما أتحدث عن تاريخ هذه المرأة، فإني أتحدث عن الطنطورة. أتحدث عن قرية معينة ومعروفة في تاريخ فلسطين وجغرافيتها، حين أتحدث عن امرأة شاتيلا أدخل بعض الشخصيات الحقيقية، حيث يظهر أنيس الصايغ في النص، والدكتورة بيان نويهض الحوت مؤلفة كتاب "صبرا وشاتيلا".

قصة مفاجأة

لماذا تتناولين الموضوع الفلسطيني في الوقت الذي تمتد فيه علاقتك بالفلسطينيين لسنوات طويلة؟

تناولت الموضوع الفلسطيني بأشكال مختلفة، لكن هذا النص يأتي بقانون، فأنت تقرر أن تكتب بحثا أو كتابا في موضوع ما، لكنك لا تستطيع أن تقرر أن تكتب رواية في موضوع ما في لحظة معينة، فالروايات كالعفاريت تظهر في أي وقت، على توقع أو على غير توقع.. توقعت يوما ما أني سأكتب ما أسميه روايتي عن فلسطين، وكنت أرغب بذلك وانتظرت.

عندما جاءتني الجمل الأولى من الرواية، عرفت بأنني سأبدأ هذه الرواية، وعموما إذا جاءت الجملة الأولى بإيقاع معين، جرت وراءها الرواية كلها. عندما بدأت أكتب، تصورت أن الأمر سيتطلب مني أربع أو خمس سنوات، ثم حدثت مفاجأة، وكأن هذا التأخير كان لأن الرواية كانت تكتب بداخلي، طوال عمري.

حيث راحت تتشكل حصيلتي المعرفية والمخزون من المشاعر تجاه الموضوع كانا جاهزين بداخلي، وبالتالي حين كتبت، كتبت بسلاسة غير عادية، رغم أنني لم أنقطع عن العمل في الجامعة مع أني اختصرت ساعات التدريب، إلا أنها كتبت بعشرة أشهر وكان ذلك غريبا، فلقد أنجزت الرواية بوقت غير متوقع .

كيف تنظرين إلى وضع المرأة العربية والاتحادات النسائية، التي يفترض أنها تمثلها؟

أنا بعيدة عن موضوع التنظيمات النسائية، ولا أعتبر نفسي ناشطة فيما يخص حقوق المرأة، أنا مواطنة ناشطة سياسيا، وبالتالي منشغلة بحقوق المواطن العربي، رجلا كان أم امرأة، هذا من ناحية،. ولكن من ناحية أخرى، أعتقد بأنني والآلاف بل الملايين من النساء العرب، نقوم بمهمات حقيقية في حياتنا اليومية. أنظر إلى الموجة الأولى من الثورة المصرية في الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير، أنظر إلى مشاركة النساء، التي كانت مشاركة مدهشة جدا.

وعدد النساء فيها مذهل، ويتفاوت ما بين الصبايا صغيرات السن والنساء المكتهلات، أو حتى من تجاوزن الكهولة إلى الشيخوخة، وحتى النساء المنقبات والنساء المحجبات، والشابات السافرات اللواتي يلبسن الجينز. كانت المرأة بمختلف مواقفها ومواقعها حاضرة، لأنها صاحبة مصلحة في التغيير، إن لم تكن جزءا من مافيا ما تستغل وتنهب، لكن عموم النساء في أرض العرب لهن مصلحة في التغيير.

أذى أخف

هل تتوقعين أن يطرق زوار الليل باب منزلك مجددا، ويدعون أحد افراد أسرتك لتناول فنجان من القهوة في الغرف المعتمة، ويفرض عليك نمط حياة معين يشتت أسرتك، مثلما حصل مع زوجك الكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي، في أيام حكم الرئيس المصري سابقا، انور السادات ؟

حدث ذلك في نوفمبر 1979 عندما أبعد مريد البرغوثي عن مصر، فتشتت أسرتنا سنوات طوال كنت خلالها أزور زوجي، بين حين وآخر، وقد حدث ذلك بعد الزيارة التي قام بها أنور السادات للكنيست الإسرائيلي، ليبدأ "السلم" الذي ليس له علاقة بالسلام ، وبقينا فترة طويلة، يقيم كل منا في مكان، لأنه لم يكن يسمح لزوجي بالإقامة في مصر.

لكن نحن كنا نتعرض لما يتعرض له غيرنا من هذا النوع من المضايقات، بل بالعكس لعلي أقول بأن نصيبنا من الأذى أخف، لأننا، والحمد لله، لا نزال موجودين، وبعض زملائنا أو من نحبهم ونحترمهم، استشهد، سواء في فلسطين، أو في مصر خلال الثورة الأخيرة( ثورة 25 يناير)، وبالتالي ما أتمناه كان أمرا نسبيا. ونحن نعي ذلك، وأنا أعي أننا محظوظون، رغم كل ما حصل لنا.

كيف توفقين ما بين العمل الأكاديمي والعمل الأدبي؟

أنا موزعة بشكل حقيقي ومزعج وضاغط، لأن التدريس والبحث والاشراف العلمي، مجالات وتخصصات، من طبيعة ومساق الأعمال الذهنية؟ وهنا الجانب الايجابي، هو أن عملك في التدريس أو في مجال البحث، رصيد معرفي يفيدك في مزيد من المعارف. وطبعا، يمنحك فرصة الاحتكاك بالطلاب. أعتقد بأن الكتابة تحتاج قدرا من التفرغ لا يتيحه العمل الأكاديمي.

ولذلك كنت أحيانا أجد في الإجازة الصيفية فرصة للكتابة الابداعية. وكنت أحيانا أكتب على حساب الوقت المتاح لي، وكنت أحلم كثيرا بأن أتخلص من عملي في الجامعة، لكن المشكلة أنني أحب عملي، وبالتالي هذا التوزع مؤذ، من جهة. ولكن الأديب المتفرغ غير موجود في عالمنا العربي، وإن حدث وتفرغ أديب ما، فإن فترة التفرغ تكون قصيرة عادة.

تخصص

كتبت في عدة ميادين أدبية أيضا، من رواية وقصة ونقد...

أنا أستاذة أدب إنجليزي، وتخصصي هو في الأدب الإنجليزي، ولكن الكثيرين لا يعرفون هذه الحقيقة، لأني أكتب بلغة نقد الأدب العربي الحديث والأدب المقارن، لكن تخصصي الدقيق كان في الشعر والنظرية النقدية. وبالنسبة لكتابة الرواية والقصة، فإنها تأتي في سياق قانونها الخاص أيضا.

 

حالة وشروط

كيف تنظرين إلى نظرية النقد الأدبي في علاقته مع الواقع الأدبي، حيث يحكى أن هناك أزمة نقدية، وأن الحركة الأدبية لا يمكن أن تعيش في بيئة صحية، إذا لم تكن تعيش مع رديفها النقدي ...؟

يوجد لدينا مشكلة في النقد، فعدد النقاد محدود، لكن أفضل نقد يأتي ممن تدربوا على الاطار القديم، وأفضل النقاد العرب هم أساتذة جامعة أكاديميون، وتدربوا في هذا المجال وقدموا اجتهاداتهم، ولم نصل حتى الآن إلى أن نملي نظريات.

حيث يوجد لدينا ضعف في الإنتاج النظري، وبالتالي نحن نستفيد في الغالب الأعم من الإضافات النظرية التي قدمها النقاد الغربيون، وتحديدا من نتاج النقاد الأوروبيين.والنظرية النقدية أحدثت نقلات كبيرة بعد ان شاع في الغرب، لمدة أربعة عقود، نقد شكلاني منشغل في العمل في ذاته، بعيدا عن سياقه الاجتماعي والنفسي.

وهذا النقد جاء بعد فترة من النقد الاجتماعي المباشر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وحصل انتاج نظري هائل في آخر السبعينات من القرن ذاته، وبرز في هذه المرحلة، نقاد كبار، منهم ادوارد سعيد. لكن من المهم جدا ألا ينقل الناقد رطانة غيره لأنه في النهاية أنت أمام نصوص أدبية، وتتحاور معها في سياق معين .

ما المشروع الذي تعملين عليه من البداية وحتى هذه اللحظة؟

هذا يقومه غيري، لكن أعتقد أن نفس الكتابات الابداعية والنقدية والبحثية لها خيط ناظم بدرجة. هناك رغبة حقيقية في التحرر الوطني موجود والتحرر الإنساني وتحرر الرجل وتحرر المرأة، لأن الكتابة الروائية أو الابداعية عموما، هي بناء على أرضية اللغة وبناء باللغة، وأنت ابن موروث أدبي عام شديد الثراء، وأنا لدي هاجس في أن أعرف هذا الموروث ويكون لي قيمة .

على المستوى الخاص لا أكتب شيئاً، بقيت فترة من الزمن مكتئبة وأبكي بعد اجتياح العراق. وبقيت مضطربة لفترة من الزمن، ولكن بعد فترة، رجعت إلى الكتابة والنشر، ونشرت ثلاثة كتب خلال ثلاث سنوات، وبعدها أصدرت رواية اسمها "فرج" تتحدث عن تجربة السجن. والحمد لله، لاقت قبولا عند القراء، ومن ثم كتبت كتابا نقديا عام 2009.

عن كتاب "الساق للساق" للكاتب أحمد فارس الشدياق، وهو نص شديد الأهمية. وأيضا أصدرت كتاب"الحداثة الممكنة " في عام2009 . وفي عام 2010 أصدرت "الطنطورية"، وفي نهاية 2010 فقدت أبي ثم أمي. وعقبها، ألم بي المرض ثم جاءت الثورة، فتتالت الضربات. وأنت تحتاج إلى وقت لاستيعاب كل ذلك، ولإعادة إنتاجه.

كيف كانت مشاركتك في الثورة المصرية الحديثة؟

قدمت محاضرة للتحية في مؤتمر في جامعة القاهرة، نظم اخيرا، وكان عن الثورات العربية، وعقد من 18إلى 20 فبراير الماضي، وكان لي الشرف بأن كتبت الكلمة الافتتاحية للمؤتمر. وهي مشاركة متواضعة أمام شباب الثورة، الذين قدموا أرواحهم وحياتهم في سبيل الثورة.

كيف تنظرين إلى العلاقة الأسرية في بيتك، حيث انها تجمع ما بين ثلاثة كتاب؟

هي علاقة جميلة وصعبة، جميلة كوني زوجة الأديب مريد البرغوثي، وهذا يشرفني لأنه شاعر كبير وناثر كبير وانسان عظيم، وهو بالنسبة لي، كان ويظل، سندا كبيرا، وهو لم يحل بيني وبين أن أتقدم اوان أتعلم. وأنا أيضا والدة للشاعر تميم البرغوثي، الشاعر الجميل. وهو متخصص اكاديميا، في مجال العلوم السياسية، وعشرته متعة فالذكاء شيء جميل، وهو متصف بذلك، حيث يكون بيننا، دائما، تفاعل وحوار، ونستمع إلى بعضنا البعض. ونتفاهم بشكل منسجم وانسيابي. وهذا جميل جدا.

الطنطورية

تقول رضوى عاشور في رواية " الطنطورية":" البحر حد البلد، يعيرها أصواته وألوانه، يلفها بروائحه، نشمها حتى في رائحة خبز الطابون، لا أذكر متى تعلمت السباحة لأني لا أذكر متى تعلمت المشي والكلام، لاحقا وبعد سنوات، قصدت المدن الساحلية. قلت بحر بيروت وبحر الاسكندرية هو نفسه، ولم يكن. بحر المدينة يختلف، تطلين عليه من شرفة عالية، أو تمشين على طريق الاسفلت ويكون البحر هناك، يفصلك عنه هوة وسياج".

نبذة

رضوى عاشور. أستاذة في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب في جامعة عين شمس، والرئيس الأسبق للقسم. ولدت في القاهرة في 26 مايو 1946. وهي زوجة الأديب مريد البرغوثي ووالدة الشاعر تميم البرغوثي. ويتوزع إنتاجها بين الرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والثقافي. وتعد من أهم الكاتبات في العالم العربي، ومن أعمالها: ثلاثية غرناطة، فرج، أطياف، مريم و الرحيل. وآخر أعمال د. رضوى عاشور: رواية "الطنطورية "، الصادرة عن دار الشروق في مصر.