كان القارئ في الوطن العربي، وعلى مدى عشرين عاماً، يحرص على اقتناء مجلة "المنتدى"، مطلع كل شهر، وفي أعدادها جميعاً، كانت دبي ودولة الإمارات عموماً، حاضرة بين أبوابها وسطورها. .

وهكذا استمرت المجلة، التي ولدت في بداية شهر أغسطس من العام 1983، توقد، طوال فترة صدورها، شمعة العطاء الفكري والثقافي، بوهج متميز ونبض قوي متجدد، انسجاماً مع روحية مشروعها الذي تحمله، خاصة مع تقديمها كتّاباً وأدباء متميزين.

 جسدت "المنتدى"، نموذج المجلة الفريدة من نوعها. إذ طالما عدت، في الوقت الذي بقيت تؤكد رصانتها وجديتها، مساحة حيوية لإبداع الشباب، ونافذة لأقلام الكتّاب بشتى توجهاتهم، معززة بذلك، حضورها كحاضنة لعدد كبير من المبدعين، على المستويين: المحلي والعربي.

 حاجة ودور حيويان

لم تكن المجلة، دورية عابرة أو اعتيادية برزت من عدم أو فراغ، فهي جاءت تجسيداً لخطة ورؤية فكرية واضحة من لدن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، غاية أن تسد حاجة فعلية ملحة، في تلك الفترة.

فكان لابد من وجودها، كي تواكب التطور الحضاري والمدني لدبي، ولتتناسب مع النهضة الكبيرة التي شكلت أعوام الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حلقاتها التطورية والإنتاجية، تحديداً، حين بدأت دبي تنمو في عقد الثمانينات، مشرعة أبواب النماء والارتقاء لتغدو كقاعدة أساسية للاقتصاد في العالم، وكواحدة من أهم محطات التجارة والاستثمار في منطقة الشرق الأوسط.

وعلى هذا الأساس، مثلت " المنتدى"، نافذة ثقافية نوعية، تواكب نهج القيادة في دبي، القاضي بضرورة أن تغطي تلك الوسيلة الإعلامية، فعاليات وأبعاد المد الاقتصادي المشهود، بروحية إنهاض وارتقاء ثقافي وأدبي، يغني بالتالي، المضمون البانورامي الشامل لمجالات عديدة، في مسار التحديث والنهضة، في دبي والإمارات عامة..

لذا، وكما يقول الأديب الشاعر سلطان بن خليفة الحبتور، على موقع "المنتدى الإلكتروني ": (مجلة" المنتدى" الثقافية، من أهم المجلات الثقافية .. لمدة عشرين سنة. لم يكن بروز أو وجود مجلة المنتدى الثقافية إلا بتخطيط ورؤية ثاقبة ودعم مادي ومعنوي ورعاية من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، واللجنة التي كلفها، برئاسة الشيخ أحمد بن سعيد آل مكتوم. وعضوية: الشيخ حشر آل مكتوم، سلطان بن خليفه الحبتور، المرحوم محمد بن حاضر، محمد عبد الرحيم العلي".

مبادرة سامية

يحكي سلطان الحبتور، عن الأسباب التي أدت إلى وجود وإصدار مجلة "المنتدى" : (كنا نحس بوجود فراغ ثقافي في دبي والإمارات، لأهمية إصدار مجلة متخصصة لتحمل رسالة الثقافة والتواصل الثقافي المطلوب والرصد والتنسيق والتوثيق لمجلة ثقافية، تجمع المثقفين من أقصى الوطن العربي لأقصاه".

وهكذا نتبين أنه ولدت المجلة، وهي تعانق المدى، وذلك ما تؤكده تفاصيل رواية سلطان خليفة الحبتور، في موقع المجلة الإلكترونية. إذ يقول: ( ..وكانت المبادرة ونحن برفقة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، كوفد رسمي لزيارة سلطنة عمان، للمشاركة في أعيادها الوطنية.

وكان الإحتفال في صلالة، فعرضنا عليه أهمية إصدار مجلة ثقافية في دبي، فوافق من حيث المبدأ، وأمرنا أن نجلس في آخر الطائرة لتداول الأفكار وتقديم الإقتراح، وعمل البرنامج واسم المجلة. وكان الحاضرون: الشيخ حشر بن مكتوم، محمد بن حاضر، سلطان بن خليفه الحبتور، محمد عبد الرحيم العلي". ويضيف سلطان خليفة الحبتور: "تم الإتفاق على الآتي:

وسرعان ما تبنى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، المشروع، وشكل لجنة إشراف من:

وعضوية كل من :

محمد عبد الرحيم العلي".

ويتابع الحبتور: "بادرت اللجنة، وقدمت تصورها الكامل والتفصيلي عن إصدار المجلة، والذي شمل الكلفة المادية التقديرية، ومكان المجلة وأسرة تحريرها، ابتداء من مدير التحرير، وإلى كافة التفاصيل الأخرى التي تحتاجها".

 مرحلة وأهداف

إن مجلة، من معدن ونوعية "المنتدى"، جاءت تلبية لحاجة محورية، وبذا وجدت كركيزة إنهاض ثقافي مهمة. وعليه، دامت عقدين من الزمن، مؤدية خلالهما، مهام جوهرية مرحلية، إذ كان لها الدور الأساسي في تحقيق أهداف تلك الفترة التأسيسية الحيوية، في الحياة الثقافية في الدولة.. ولا شك في أنها أدت مسؤولياتها، على أكمل وجه، وفي شكل جاذب ولافت، أهلها لتصبح سفير الإمارات ورسولها، في الحراك الفكري العربي، من الماء إلى الماء، ذلك طوال 20 عاماً .

 عمل منظم ودقيق

اتسمت اللجنة المؤسسة ل" المنتدى"، بالتنظيم المحكم، في آليات عملها وفي دقة بنائها تصوراتها، وكان لابد من وجود متخصصين، ضمن كادر عملها، ليتولوا مهام إدارة التحرير والإشراف العام. لذا، وبعد بحث مكثف عن من يمكن أن يقوم بهذه المهام الصعبة والحساسة، في تلك الآونة، اهتدت اللجنة إلى الراحل إبراهيم سعفان، الذي كان، حينها، مدير تحرير مجلة "الثقافة المصرية"، الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب.

وبدأت معرفتي الشخصية بإبراهيم سعفان، عقب صدور العدد الأول من المجلة، إذ شرع، آنذاك، في الاتصال بالكتاب والأدباء في الدولة، من المواطنين والمقيمين العرب، غاية حشد الأقلام المبدعة للكتابة في "المنتدى". واستمرت علاقتي بسعفان، حتى مغادرته إلى القاهرة، ذلك بعد أن تعاونت معه طوال عقدين من الزمن، من خلال كتاباتي في المجلة. وكان يحرص على أن أكتب في كل عدد، موضوعاً جديداً، نتفق على فحواه ومساقه.

كان الرجل دمثاً.. ولم يعارض توجهات ومضامين كتاباتي، بل إنه لم يتدخل في ما أدبجه من آراء، حتى وإن كان لا يؤمن بها، كما حدث أحياناً. فكلانا من مدرستين مختلفتين في الكتابة، ولكن ذلك لم يفرق بيننا أو يباعدنا، أو يجعل أحدنا يتعدى الحدود والأصول، بل كان الحوار يقربنا ويكثف علاقتنا، ذاك كوننا نحترم الرأي والرأي الآخر.

 تجربة نوعية

تعرفت من خلال إبراهيم سعفان، أو عبر علاقتي بالمجلة، بصفة عامة، على الشاعر سلطان بن خليفة الحبتور. وكنت أجده أحياناً في مكتبه، قرب المركز التجاري في دبي، وبفعل تلك العلاقة الجديدة، حينها، اطلعت على دواوين الحبتور، والذي كان يشكل الدعامة الأساسية ل"المنتدى".

وفي وقت لاحق، انضم الصديق، الشاعر عارف الخاجة، إلى أسرة التحرير، رئيساً تنفيذياً للمجلة. وكنا نلتقي ثلاثتنا، في مكاتب المجلة، باستمرار، ونتحاور، أثناءها، في موضوعات شاملة تهم مختلف شؤون وشجون الأدب والإبداع.

برزت مجلة المنتدى، في الواقع الفكري والاجتماعي، في الإمارات والعالم العربي، كنافذة أساسية للحياة الثقافية، وخاصة بعد أن فتحت صفحاتها لتحتضن أقلام المبدعين العرب، من شتى الدول، مسهمة بهذا، في تطوير، بحق في تبني أقلام جديدة وفي تطوير الحياة الثقافية عموماً.

 دعم وقيمة

حظيت مجلة المنتدى، باحترام القادة والمسؤولين في دولة الإمارات، وفي مقدمهم : صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي دعمها مالياً ومعنوياً، ومنحها الحياة. وصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، إذ كانت أعداد المجلة، تصل إلى سموه بانتظام، وذلك كما يذكر سلطان بن خليفة الحبتور في حديثه عن المجلة.

كما تميزت المجلة بطابعها النوعي، على مستوى المواد وطاقم العمل التحريري. واتصفت بسمة بارزة، تتمثل في تبني إبراهيم سعفان، نظام عمل لم يستعن معه بكادر تحريري كبير، بقدر ما اعتمد على نفسه، وعلى هيئة المجلة التحريرية المشكلة من مجموعة تضم خيرة المثقفين، وهم:

وطالما بقي إبراهيم سعفان، حريصاً، أيضاً، على أن يكتب افتتاحيات العدد، إلى جانب توليه مهام : التحرير والمراجعة والتدقيق.. وكذا استمر مشرعاً أبواب مكتبه أمام جميع الزوار، من الأدباء والكتاب.

 فضاءات جديدة .. وتوقف

بدأت المنتدى من النقاط والاستهلالات المبدئية، من غير أن يكون لديها أية خلفية تجربة أو ممارسة، تغتذي منها وتستند إليها. ولكنها لم تتأخر حتى قطعت خطوات لافتة، ومن ثم حققت أهدافها، بدقة وثبات، عبر عقدين من الزمن، قدمت فيهما الكثير، على صعيد إذكاء الثقافة العربية.

وكان توقفها عن الصدور، نتيجة منطقية لنهاية طبيعة المرحلة التي مثلتها وواكبتها وعكستها. إذ طفقت دبي، وبعد تعزيز دعائم النهضة والارتقاء، في التحول إلى فضاءات فكرية واقتصادية واجتماعية وتجارية وثقافية، أرحب، وذات نطاق عالمي عصري الطابع..

ولذا تجلت في هذا الخضم، ضرورات الاعتناء بجودة العمل التخصصي، في كافة المجالات، وبناء عليه، تبلورت الحاجة إلى التوسع والتخصص والتطور، في ماهية الإصدارات التي تفي بغرض عكس صورة ومضمون تقدم دبي في المرحلة الجديدة. وهكذا، صدر بديلاً عنها، العديد من المجلات، مثل :دبي الثقافية، الصدى.

 ريادة

إن الحديث عن "المنتدى"، وعن إبراهيم سعفان، لا ينتهي. فالمجلة نافذة فكرية رائدة، رأت النور في زمن هو بحق زمنها، ومن ثم توقفت عند انتهاء المرحلة التي مثلتها. كما أن إبراهيم سعفان، أدى دوراً نوعياً في عمله بالمجلة، وحافظ على مكانته وقيمته، كصحافي مهني وكاتب متمرس.

وكذا أديب معروف. فلم نعرفه يوماً، في أثناء صدور المجلة، إلا لولباً محركاً وموجهاً لها. وعهدناه، على الدوام، مخلصاً وأميناً، في ترتيب وتوفير جميع مستلزمات وقواعد انتظام عملها ودقته. ولم يفته، أبداً، متابعة كافة الاحتياجات لصدورها، دورياً، في الموعد المحدد، حرصاً منه، على علاقة القارئ بها، ذلك كما يقول في واحدة من افتتاحيات "المنتدى".

ولا تفوتنا، في هذا السياق، أهمية الإشارة إلى قيمة ما دأبت عليه، واعتنت به" المنتدى"، طوال فترة صدورها، إذ بقيت مسكونة بتعزيز وتصليب علاقتها الوثيقة مع قرائها. فذاك التوجه، وكما توضح الدراسات والأبحاث الفكرية المتخصصة، سبيل رؤيؤي ناجع، يفيد الأجهزة والجهات الثقافية، في تحقيق وإنجاح مهامها في رفع سوية ثقافة وفكر الإنسان العادي، لتبلغ مناسيب الثقافة الراقية والجادة، كافلة بهذا تربية ذوقه الفني، وتعويده على الأفكار الصحيحة.

وهو ما يجعلها، بحق، نموذجاً لإجداء قيمة الثقافة، ونشرها مجتمعياً، في شكل يؤهلها لتكون مستثمرة في تطور أفراد المجتمع. ولا نبالغ، فعلياً، إذا قلنا، إن " المنتدى"، كانت خير معبر ومجسد لهذه القيم الفكرية. إذ ابتعدت عن الهبوط والإسفاف، والتزمت خط الثقافة الجادة، ملبية حاجة قارئها المثقف، بمستوياته المختلفة، ليشعر مع محتواها، أنه يقرأ شيئاً جديداً يستفيد به.

وأجدنا، في هذا الصدد، مطالبين، كقراء عاديين ومثقفين، بالتعلم والاستزادة، من المهد إلى اللحد. ولا شك في أن الخدمة الجليلة التي تقدمها وسيلة إعلامية مطبوعة، للقارئ، ليست، من وجهة نظري، في تسطيح المادة المقدمة، بل في تجويدها أكثر.

وأيضا في توفير المطبوعات والبرامج الثقافية، لجميع شرائح المجتمع، بسعر مخفض، ذلك لتكون في متناول القراء كافة، خاصة في هذه الأيام التي ارتفعت فيها أسعار الكتب والمطبوعات، بشكل جعل المثقفين المتابعين لكل ما يصدر من كتب ومجلات، يحجمون عن نهجهم المعتاد في شرائها ومتابعتها بانتظام.

.. في قلب"المنتدى"

بعد أن عاد إبراهيم سعفان إلى القاهرة، بقيت أتابع خطواته وأخباره كصديق، لكن لم تطل إقامته فيها، حيث ودع الدنيا، بينما ظل حياً في قلب"المنتدى" كشجرة مورقة، يستظل اليوم بفيها، العديد من المبدعين الذين تخرجوا من خيمة المنتدى.. أو الذين يعودون إلى ما نشر فيها، بعد أن أصبحت مرجعاً حيوياً، يمثل ويعكس فترة زمنية جديرة بالدراسة.