أمضى أستاذ الانثربولوجيا بجامعة دمشق الدكتور علي الجباوي عشرة أعوام في جمع مواد هذا السفر الضخم الذي يشمل عشائر النور في بلاد الشام وطرق كسبها الاقتصادي وعاداتها وأنسابها ولغاتها ولهجاتها، وأنماط عيشها. ويطمح بكتابه هذا إلى تأسيس لبنة أولى في «علم النوريات». للمؤلف عدة كتب في الاناسة وعلم الانثربولوجيا العام مثل: كتاب المرأة في أسفار التوراة وكتاب الفكر الانثربولوجي في التراث العربي الإسلامي وكتاب الانثربولوجيا الطبيعية.
يروي الباحث جانبا من مغامرته الشيقة، التي تعرض فيها أحيانا إلى مضايقات واعتداءات بالضرب من غجريات بسبب سؤال بريء والى توقيف عابر في المخافر بسبب سوء فهم أثناء بحثه الميداني عن وثائق مادية عن أصولهم وعرقهم. يهدف الباحث من خلال بحثه الموسوعي الميداني كسر الصورة النمطية عن النور، وتسليط الضوء على جماعات مغمورة مختلفة العادات، تشترك في خصيصة عدم الاستقرار في مكان، المرأة فيها هي «القوامة» و«عمود البيت» كما يهدف إلى إنصاف هذه الشرائح من الظلم الاجتماعي ووضع صورة حقيقية عن واقعها.
الغجر طائفة من الناس، سيقت حولهم الكثير من الأساطير والألغاز والأفلام والحكايات تراوحت ما بين التحقير والتمجيد الرومانسي. ويبدو أن الكاتب من المعجبين بموضوع بحثه الذي يمزج بين المناهج الاناسية والوصفية والتاريخية إلى جانب منهج التحليل المقارن. يبدأ الباحث كتابه بآيات القرآن الكريم (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) للتأكيد على المساواة بين البشر إنسانيا، واختلافهم ثقافيا، ويمضي إلى تعريف النور بوصفهم مجموعات بشرية، منحدرة من شبه القارة الهندية، تعيش في مختلف بقاع العالم، تتصف بالبشرة السمراء والقامة الرشيقة والشعر الأسود القاتم.
ينقسم المجتمع النوري في بلاد الشام إلى جماعات مهنية متعددة مثل القرباط وهم رؤوس النور، جاءت تسميتهم من جبال الكاربات في أوروبا وهم يمارسون صناعة الغرابيل ويحافظون على لغتهم الأم ويتميزون بالقسوة ولا يتزاوجون من العشائر النورية الأخرى وعشائر النور تتفرع إلى عشائر مهنية، لا دموية عصبية، مثل الطبالة والرياس والطنجرلية والسعّادين ومروضي القردة والدببة والسعادين والبهلوانيين والحدادين والصباغ وتجار الخيول والحمير الهزيلة، ونور تلبيس الأسنان بالذهب والمبيضين وأصحاب القدور «الحجيات» والشعّار أو القواصيد.
يجد الباحث أن نساء النور موشومات غالبا، يمارسن التسول والبصارة وقراءة الفأل، وعليهن يقع العبء الاقتصادي. الزواج عند النور داخلي، فالزواج المختلط عار عندهم، ويتم باكرا، والنور شعب مكثار «ولود»، معروف بتعدد الزوجات، وبتفضيل الزواج بين أبناء العمومة، وبشيوع زواج البدل، «الداقيش» (حيث تكون العروس مهرا للعروس الثانية والعكس بالعكس) ومعروف بندرة حالات الطلاق، وكثرة حالات الخطف الذي ينتهي بالتراضي، بدفع ضعف المهر كما عند النور المطاربة.
الحزن عندهم كبير، وطقوس الدفن احتفالية، يرافقها طبل وزمر وإطلاق نار، وقد يتبعه هجرة من المكان تطيرا كما يفعل مطاربة صافيتا، والفرح في الأعراس عارم آلات النور الموسيقية التقليدية هي الطبل والزمر وزرنايا وبزق، وألعابهم الشعبية: الشدة، المنقلة، الودآي، الخمس حصوات. والمرأة النورية محتشمة اللباس، والأولاد حفاة والرجال يقضون وقتهم في التدخين والحديث بعشوائية مع تمثيل انفعالي بحركات الأيدي،و ضحكهم صاخب، والشجار يقع لأتفه الأسباب، و ينتهي سلميا غالبا، وكثيرا ما يتشاتمون بشتيمة: ابن سلاخ الحمير.
نور بلاد الشام مسلمون ديانة لكن دون التزام بالتعاليم الشرعية، وهم يعرفون العربية إلى جانب لغتهم الأم «لغة العصفورة» أو لغة «الضوم واري». يزعم بعضهم أنهم ينحدرون من أصول عربية أصيلة مثل قبائل بني مرة وبني تميم. النور قليلو الاهتمام بالقواعد الصحية لكنهم يتميزون باللياقة البدنية. أهم الجماعات النورية الشامية هي النور المطاربة والرياس وهم أهل طبل وزمر مواسمهم مناسبات المجتمع الشامي من أعراس وطهور وغيرها ونّور الحجيات ومورد هذه الجماعة من رقص وغناء نسائها، وتنتشر أقاويل تعرِّض بقلة شرف النوريات لكن الكاتب يؤكد استماتة النساء في الحفاظ على شرفهن من وجهة نظر نورية.
أما النور البهلوانيون فهم الذين يتعيشون من ألعاب السيرك ويطلق عليهم «أم حبل» لأن النساء امهر من الرجال في المشي على الحبال والنور المبيضون وهم الذين يبيضون الأواني النحاسية بالقصدير المذاب والنور الحدادون والنور الصيّاغ وهم الذين يقومون بصياغة الخلاخيل والخواتم والنور البرامكة وهم الذين يربون الحمير الكبيرة الحجم لاستخدامها في تلقيح إناث الخيل لاستحصال أنسال حيوانية تجمع بين قوة الحصان وصبر الحمار.
يلفت الكاتب إلى ضعف التعليم بين أبناء المجتمع النوري والى قوة رابطة العشائرية حيث يجمع شيخ العشيرة السلطتين التنفيذية والقضائية، كما ينتبه إلى قوة العاطفة النورية تجاه الأطفال، دليل ذلك كثرة تبني الأطفال الأيتام، والى إيمانهم بالأرواح الشريرة، يعكس ذلك حملهم الرقى والتعاويذ. يشير الكاتب إلى أحاديث النور الصاخبة في «الخرابيش» ـ وهي بيوت خيشية ـ التي تجعل المرء يظن أنهم مقبلون على عراك، والى حذرهم الشديد من الغرباء وخشيتهم من رجال الأمن،
وحبهم للطرب وإفراطهم في تناول المشروبات والأدخنة، وإلى ميل نوّر الريف إلى صيد الغريري والنيص بالكلاب السلوقية، والى تفشي عادة الثأر بينهم، والى حبهم لتربية ديوك المبارزة وطيور الحجل، طقوس الدفن خاصة ومميزة أهمها تكفين الميت أكفانا بعدد زوجاته أما المرأة فتكفن بكفن واحد مهما تعدد أزواجها(نوّر الارناؤوط) كما يشتهرون بالطب الشعبي (المطاربة الكرد).
يقرّ نور الشام بأنهم غرباء وافدون إليها، وتشيع بينهم شائعة ان سبب تنقلاتهم عائدة إلى أيام حرب البسوس والتي أجبرهم بعدها الزير سالم على الرحيل وعدم إشعال النار، أما حقيقة مزاعم بعض النور إلى كونهم عربا فيعزوها الباحث إلى نصوص المعاهدة التي وقعها القائد العربي محمد بن قاسم الثقفي عام 638 أيام الخليفة عمر بن الخطاب مع الاساورة الذين دخلوا بمقتضاها الإسلام ووافقوا على محاربة العجم والدخول في خدمة العرب وحذا حذوهم قبيلتا السيابجة والزط اللتان انضمتا إلى قبيلتي بني تميم وبني مرة العربيتين.
يبدي الباحث إعجابه بقوة الخصائص الثقافية للنور، وقوة سلطة الكبار والآباء عموما على الأبناء وهذه السلطة هي العامل الرئيس في الحفاظ على الذات مئات السنين رغم الحداثة التي اجتاحت المجتمعات وغيرّت خصائصهم كما حدث مع غجر رومانيا وبلغاريا والمجر حيث صاروا جزءا من شعوب تلك الدول وتحول المهرجون إلى علماء وموسيقيين وباحثين.
أحمد عمر
*الكتاب: عشائر النورفي بلاد الشام
* الناشر:دار التكوين ـ دمشق 2006
* الصفحات: 867 صفحة من القطع الوسط