منذ اكتشف الإنسان القديم سر السحر الذي يحدثه الغناء في شعوره وعلى أدائه الجسدي، ومنذ أن نقر على الخشب واستحدث الإيقاع ورتبه، ومنذ أن اكتشف صفير الريح واستنطق الأشياء أصواتها، إلى أن ابتكر آلاته الموسيقية، عبر الدهور والعصور واخذ يطورها ويبدع في دقتها التي بلغت في تناغمها صوت الشعور وصوت الصوت الداخلي، الذي يتردد بين أضلعه، منذ ذلك التاريخ الغابر والى اليوم، أنتج هذا السحر ملاحم صوتية توارثتها البشرية، بل صارت من طباعها واطباعها، وإذا كان تاريخ المهن اليدوية والحرفية يسجل الغناء كمرافق دائم.
فان علماء النفس اليوم يعيدون تذكير الإنسان الحديث، ابن المدنية وعصر الكهرباء وتكنولوجيا الفضاء بأهمية الغناء وأهمية تأثيراته على أعصابه المشدودة التي تحتاج إلى الرفق. يغني رجل المدينة المتمدنة، في الطريق وفي العمل وخلف أجهزته الالكترونية، لكن غناءه يبقى مستعارا من أغنيات عامة ومشاعة، تصلح لأي مهنة ولأي مكان وفي أي موقف. بل تطورت تجارة الأغنيات عبر بيع مقاطع منتقاة منها، بواسطة وسائط الاتصال، فالهاتف المحمول اليوم يوفر لك عبر شركات متخصصة ما تطلب في ما لو كنت بحاجة لجرعة غناء، أو نغم، فهناك موظفون يجلسون على مكاتبهم الخاصة يتواصلون مع ملايين البشر لتوفير «رنات» غنائية، يختارها العميل من قائمة طويلة لأشهر الموسيقيين والمطربين.
بل تسوقنا التقنية الحديثة اليوم والتجارة القائمة على ضفافها، إلى توفير وجبات غنائية للمناسبات، ففي عيد الأم، أو عيد الوطن، أو أي عيد خاص، أو مزاج معين، يسهل عليك وعبر إدارة أرقام هاتفك، أن تحصل على المقطع الغنائي الذي تحتاجه للتعبير عن شعورك.. وأيضاً تمادت الخدمات التجارية في هذا الإطار بأن ذهبت إلى توفير الخدمة بناء على علاقات الناس ببعضهم البعض، فبيع المقاطع والفواصل التي يمكن تبادلها، عبر إرسالها واستقبالها عن بعد، بإمكانه أن يلبي مزاج الزبون، أو طالب الخدمة في اللحظة ذاتها، فإذا كنت محباً مغرماً وعاشقاً وغاضباً، فأنك تستطيع أن تطلب مقطعا من أغنية ترسلها لمن تحب «لتقرعه»، أو تشعره بشعور البؤس الذي ينتابك، والعكس صحيح، ففي فرحك تستطيع أن تجلب غناء المطربين لتجيره لصالح هذا الفرح.
دون عناء، دون تعب، دون حاجة إلى أن تكون في محيط اجتماعي دافئ، ففي وحدتك يحضر إليك العالم اليوم، وحتى وإن كان باردا برودة غياب دفء الدم. هذه التجارة التي تسمى «توفير رنات الهاتف النقال، أو مقاطع أغنياتك المفضلة»، تدر اليوم ملايين الدولارات على شركات خصصت نفسها لهذه المهمة والتكسب من توفير الغناء وجعله حاضرا في حياة الناس ومؤثرا في سلوكهم.
كما أن إنسان المدينة الحديث، أو إنسان المدينة الحديثة، صار معتادا ومنغمسا في لذة الغناء والاستمتاع به، ولكن هل ذلك هو بالدرجة التي يستمتع بها فلاح يجز أعشابه الصغيرة الدقيقة في بحر حقل اخضر شاسع يغطس في أشعة شمس الصباح أو اقتراب المساء؟
هل هي في مستوى نشوة نجار يأكل الجذع السميك بمنشاره الحديدي، فيمازج بين هارمونيات الأصوات الصادرة عن فعل النشر وبين طبقات صوته وهو يصدح بالمواويل والآهات؟ أو بناء يضع لبنات الجدران بمقاييس وهو يترنم بنغم ثابت يهيئ التوازن لاستقامة ذلك الجدار، أو بحار بدا كحبة خردل بين أمواج عاتية تصارع مجاذيفه وشراعه، وهو يدفعها بصوته وصوت الريح..؟
هل يتوازى في الشعور إيقاع أو رتم أو مقام موسيقي ابتعته للتو عبر جهاز الحاسوب وتسمعه عبر مكبرات الصوت، وذلك الإيقاع المنفلت والحر والإبداع المنطلق بصورة طبيعية حينما تسحبك الطبيعة إلى حضنها وتجعلك تتماهى مع ما حولك من حياة وجماد؟
لا يفضل رجل المدينة الحديثة سؤالا من هذا النوع، فالتطور سمة الإنسان وسمعة الصيرورة، لكن انطلاقات الإنسان الأولى وتجلياته الأبدية في حواره مع الطبيعة تبقى الأصل.
الغناء حيلة الإنسان الذكية
ارتبطت مهن الإنسان، وعبر التاريخ، بأنواع من الغناء..، علماء النفس يقولون أنها تنتج عن رغبة في مقاومة الطاقة لدى هذا الإنسان، أو استفزازها، أو إشغالها، فالإنسان حين ما يبذل جهدا عضليا، يكون بحاجة إلى تسخير حواسه جميعها في اتجاه ما يبذل، والغناء عبارة عن حركة فسيولوجية في تركيبها الفيزيائي، تكمن في دفع الهواء خارج الصدر، ينتج عن دفع الحجاب الحاجز نتيجة تعرضه للضغط من جراء الأفعال البدنية التي يتطلبها انجاز العمل، والغناء حيلة ذكية ابتدعها الإنسان، لكي يصبح للزفير طعما آخر.
وبالتطور تفنن الإنسان وأتقن، فاكتشف تأثير هذا الفعل على اللاشعورـ فصار الغناء نوعا من إلهاء العقل عن التفكير في التعب واستحضار الفرح. وهكذا تعدد الغناء المرتبط بالمهن، وتنوع، حسب عنف الفعل واحتياجه للقوة الدافعة والمستمرة.
في البحر كانوا وحدهم
في منطقة الخليج التي تتعدد فيها البيئات، بين البحر والصحراء والريف والجبال، برزت أنماط من الغناء الذي ارتبط بالمهن وبحركة الإنسان أمام الظروف التي شكلتها قسوة تلك البيئات.
وحين نذهب إلى عمق الجذور والتاريخ، نجد أن الإنسان الخليجي انفتح على ضروب مختلفة من الغناء تبعا لطبيعة المهن، لكن يبدو واضحا أن الغناء المرتبط بالبيئة البحرية، لا زال هو الذي يصلنا بصورة واضحة ودقيقة، لأن البحر والتاريخ الذي صنعه الإنسان الخليجي بين أمواجه، هو الذي بدأ تصديره للجهات المختلفة باكرا، على اعتبار أن البيئات الصحراوية والجبلية والريفية، هي بيئات بعيدة عن الموانئ.
ولقد شهد الفن البحري مراحل من التطور، رافقته في مسيرته الأولى، سواء على صعيد اللحن أو الكلمة أو الموسيقى، لقد استفاد البحار الخليجي من أصوات الموج وهدير البحر وصرير الصواري وفعل الريح في الأشرعة المسافرة، استفادة كبيرة في تشكيل ما يطلق عليه الغناء البحري..
وكان «النهام» وهو الاسم الذي يطلق على مغني السفينة، هو الذي يتولى مهمة اشعال الحماسة لدى البحارة وهو الذي يقيم ليالي السمر، مثل ما كان يغني لتعبهم ويدفعهم إلى مشاركته تلك الحالة، كان لسان حالهم الشعوري، وهو يدفع بصوته الدعاء لله بتسهيل مهمتهم وعودتهم سالمين إلى الديار والأحبة. لهذا يغلب على مواويل النهام وأغنياته، «الأدعية والابتهال إلى الخالق».
وفي الإمارات، ربما لم يبرز فيها كثير من النهامين، مغنيي سفن الغوص، حيث كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، مثل ما برزوا في البحرين والكويت، كان هناك نهامون اشتهروا بهذه المهنة على سفن غوص شهيرة، كانوا يتكسبون أجرهم من وراء هذه المهمة، وبعضهم مارس مهنتين في الوقت نفسه على ظهر السفينة، فكان النهام هو المؤذن وهو الإمام الذي يصطف خلفه البحارة المتبعون للصلاة.
أبو سماح آخر الصداحين
في العام 1995 رحل عن هذه الحياة رجل اسمر، رجل من البحر ومن الموج، ابن تلك السفن التي ذهب بحارتها باحثين عن اللآلئ الثمينة في الأعماق، إنه جمعة فيروز «بو سماح»، وكان آخر النهامين الذين بقوا على قيد الحياة من أيام سنوات اللؤلؤ والسفن الشراعية.. أبو سماح، أو آخر النهامين، حاول في العقد الأخير من عمره أن يحدث من حوله، عن أسرار مهنته الرئيسية فوق سطوح تلك السفن، كيف كان يصدح بصوته مغنيا مواويله وإنشاده لهم لكي يستمروا في العمل وسط التعب والريح والملح والحياة الصعبة.
وسط الجوع والعطش والغربة في عرض البحر، بعيدا عن الأهل والأحبة والأبناء، رجال كثر كانت زنودهم بحاجة إلى قوة حنجرته لكي يضربوا المجاذيف في المياه، لكي تسير سفينتهم الكبيرة، كانوا بحاجة إلى أنفاسه حين ما كانوا هناك في ظلمة في الأعماق يقاومون من اجل أنفاس قليلة تكفي لاقتلاع محار اللآلئ الثمينة.
استمر «بوسماح»، آخر النهامين، قبل تاريخ رحيله بعقد من الزمان، في إيصال صوته للإذاعة والتلفزيون، وسعى إليه نفر من المهتمين بالتراث لجمع ما في صدره من غناء، سجل منه الشيء اليتيم، وترك أبياتا لمواويله في أوراق وثقتها إدارة التراث بالشارقة، ثم مضى ليغلق الباب خلفه على مهنة، لطالما حظيت بالاحترام من الرجال الذين أحاطوا بها أو عملوا فيها..
وفي كتاب أصدرته إدارة التراث بالشارقة في العام 2003، من جمع وإعداد الباحثين عبدالعزيز المسلم ومحمد عبد السميع يوسف، يسجل الاثنان بين دفتيه معلومات عامة وشخصية عن آخر النهامين بوسماح، راصدين حياته وعلاقته بالبحر وبالغناء البحري، وعمله بعد انتهاء زمن الغوص وبعد أن وجد نفسه على الشاطئ بلا سفينة.
حيث اتجه إلى تأسيس فرقة للفنون الشعبية، جمع حولها الشباب وصار يدرسهم فنون «العيالة»، وهو فن شعبي إماراتي مشهور، ثم أسس جمعية للفنون الشعبية، ثم عاش حياته بين الجلود والحبال والأخشاب يعد الإيقاعات والطبول ويجهزها، وأخذ يشرح كثيرا لمن حوله، كيف تصنع وكيف يمكن لها أن تكون ذات نغم وإيقاع جيد مناسب..، عاش موسيقارا من الطراز الأول والقديم، وحيدا إلا من محبين ومريدين، ويسجل الباحثان في هذا الكتاب «ابوسماح آخر نهام في الإمارات».. مواويل قالها وغناها قبل رحيله، حفظها عن ظهر قلب عن تلك الأيام المضنية، أيام التعب..:
«بتينا.. بتينا.. بتينا يا زعولة
بتينا بتينا غم على الحاسدين
اطلعي فوق،. فوق
اطلعي يا أم العجول
اطلعي من العام لول
اطلعي ما فيك عوق»..
هذا موال كان يصدح به «النهام» أثناء ممارسة الغواصين غوصهم على اللؤلؤ الثمين في عرض البحر. ويشرح الباحثان المعنى هكذا: «ستأتينا.. ستأتينا اللؤلؤة بعد الخصام.. ستأتينا رغما عن الحاسدين..ثم يدعوها للخروج من الماء، إلى الأعلى، إلى السفينة، ويريدها «لؤلؤة» سليمة غير مصابة بخدش، «لؤلؤة معتقة انتظروها منذ العام الماضي».
هكذا يحمس «النهام» الغواصين وهم يجرون الحبال وينزلون إلى أعماق البحر، بحثا عن تلك «اللؤلؤة» المعتقة والتي هي هدفهم في رحلتهم الطويلة والشاقة.شكل «النهام على سطح السفينة، عاملا مهما في مسألة الحماسة والتحفيز، وكان الأنيس في ليالي الفراق، فأولئك البحارة الذين ترتمي أجسادهم المتعبة على السطح الخشبي للسفينة، بعد يوم شاق من العمل سينتعشون وتصيبهم الحماسة .
ويبدأون في الرقص والتصفيق والإنشاد، وكأنهم زوار حفلة غنائية جاءوا لتوهم، ولم يبرح غناء النهام بيئته مطلقا، سواء على مستوى النغم، أو الأداة المستخدمة، ففي عرض وفي سفينة مخصصة للعمل الشاق، لن يكون هناك مجال لأدوات وآلات موسيقية، وسيكون هدير البحر هو الصوت الذي يقلده البحارة وهم يردون بأصواتهم على مواويل النهام، ستشكل أصواتهم مجتمعة، وبطبقة معينة، صوتا فيه الشيء الكثير من الهارموني، وسوف يتقاطع هو مع أنفاسهم التي تعلو وتنخفض، كما يعلو الموج وينخفض.
وسوف يصفقون وسوف يستخدمون جرار الماء الفخارية ويضربون على فوهاتها لكي تصدر أصواتا إيقاعية أشبه بارتطامات الماء بجسد السفينة، و وسوف يضربون بأقدامهم سطح السفينة الخشبي، فتتحول السفينة في تلك اللحظة إلى «طيل» كبير سابح في الماء.
اليوم أو غيره من النهامين، الذين ترجلوا عن سفنهم وعن الحياة من بينها، أو ربما تكون النغمة مقلدة، لكن ستؤدي الغرض، وستبعث في نفس طالبها ذلك الشعور الذي راوغه البحارة لشهور طويلة.
مرعي الحليان