لحظات تراجيدية تلك التي قضيناها في نهاية شارع الملك محمد الخامس، في الجزائر العاصمة، في يوم العطلة الأسبوعية: الجمعة. إذ كانت الشوارع تكاد تخلو من المارة، ولكن بقينا نسأل إن كان المنزل أمامنا هو منزل كارل ماركس، الذي كان غادر مكان إقامته في لندن يوم التاسع من فبراير ‬1881 متوجّهاً إلى باريس، ليودّع ابنته الكبرى «جيني»، وليتابع بعدها رحلته إلى مرسيليا ومن ثمّ إلى الجزائر التي وصل إليها بحراً في ‬20 فبراير في العام نفسه ، حيث أمضى فيها اثنين وسبعين يوماً.

يبدو منزل كارل ماركس في مدينة الجزائر، وحيدا، وفقط إلى جانبه منزل آخر يبعد عنه أكثر من مائتي متر، ولا يزالان معا، يحافظان على طرازهما المعماري العثماني، إذ لم تفترسهما العمارة الكولونيالية. أحد المارة حسب أننا نسال عن بقَّال. وآخر استنكر الاسم ونظر إلينا مستهجناً: كيف نسأل عن كافر؟ صاحب ورواد المقهى الصغير تحت المنزل الذي سكنه ماركس، نفوا أن يكون هناك رجل بهذا الاسم قد سكن في شارعهم.

المنزل ومعرفة الناس به

لم تدم بنا كثيرا، حالة اليأس وعدم العثور على إجابات من الناس، حيث قابلنا رجلا سبعينيا وعَدَنا بأنَّه يملك إجابة عن سؤالنا، لكن بعد أن يصلي صلاة الجمعة، وكأنَّ الرجل هذا لم يفقد سجيته، فالإيمان بمعتقد ما ربَّما يكون شرطاً لامتلاك الإنسان للحياة. الحياة التي لم تتساهل أبداً مع كارل ماركس، إذ تصف ذلك زوجته جين ويستفالن في رسائل إلى صديق لها:» ائذن لي أن أصف لك يوماً من أيام هذه الحياة، وسترى أنَّ غيرنا لم يقاس ما قاسيناه، فأنا مريضة سقيمة ومع أنَّ ثديي وظهري بهما أوجاع وآلام بالغة، فإنَّني مضطرة إلى أن أرضع طفلي الرابع الحديث الولادة، لأنني لا أستطيع أن أدفع أجرة مرضعة، ولكن كان طفلي يرضع الحزن والألم والوجع فيتلوَّى من المرض ليلاً ونهاراً. ومع هذا الفقر والحاجة فقد دخلت علينا صاحبة المنزل وطلبت منَّا أجرة البيت. كما طالبتنا بما لها علينا من قروض، ولما كنَّا عاجزين عن الدفع فقد حجزت على كل ما نملك في البيت، حتى فراش طفلنا، فباعته لتستوفي الدين، ثمَّ طردتنا إلى الشارع والمطر ينهمر بغزارة».

محن وفاقة

كتبت جيني أيضاً تصف إحدى ليالي البؤس التي مرَّت بها وبماركس: «أحسَّت ابنتنا بنزلة شعبية، وصارعت الموت ثلاثة أيام، ثمَّ ماتت. وأخذنا نبكي عليها ولم يكن لدينا ما نجهِّزها ونكفِّنها به، وأبقينا الجثَّة حتى نجد ما نستعين به على دفنها، ومضيت إلى جار فرنسي مهاجر فأعطاني جنيهين!..واأسفاه!.. جاءت ابنتنا إلى الحياة فلم تجد مهداً، وعندما غادرتها لم تجد كفناً».

اتكالية ولا مبالاة

كان ماركس في أيام حياته الدراسية عالة على أبيه، ومن ثمَّ على أمِّه وأخته، حتى أنَّهما عجزتا عن مواصلة الإنفاق عليه، فصار يستدين من أقربائه وأصدقائه، واستمرَّت حالته هذه بعد زواجه، كما ذكرت زوجته في رسائلها، وهي كانت من سلالة عائلة بروسية نبيلة حيث إنَّ أخاها الأكبر فون ويستفالن، كان وزيراً للداخلية في بروسيا، وذلك بين ‬1850و ‬1858. إلى أن جاء فريدريك إنجلز إلى باريس، في سبتمبر سنة ‬1844، لقضاء بضعة أيام فيها فتعرَّف على ماركس، وصار يصرف عليه، فتحسَّنت حاله ومن يومها أصبحا صديقين. وفي سنة ‬1845 يُطرد كارل ماركس من باريس لكونه صار يشكِّل خطراً على القوى الرجعية، ذلك بناءً على طلب الحكومة البروسية. فغادرها إلى بروكسل، وفي ربيع ‬1847 انتمى كل من ماركس وانجلز إلى جمعيةٍ سريَّة للدعاية هي «عصبة الشيوعيين»، وقاما معاً ببذل جهد مهم ولافت في المؤتمر الثاني لهذه العصبة، المنعقد آنذاك في لندن. وفي نوفمبر ‬1847 وبناء على تكليف من المؤتمر، وضع ماركس وانجلز «بيان الحزب الشيوعي» الذي نشر في فبراير ‬1848. وفي العام ذاته يُطرد ماركس من بلجيكا فيعود إلى باريس ليتركها بعد ثورة مارس، ومنها يسافر إلى ألمانيا ليقيم في مدينة كولونيا.

لم يدعم قضية الجزائر

كان كارل ماركس يمضي معظم أوقاته في الجزائر بالقراءة أو في التجوال عبر حدائق المدينة وأسواقها، وكان اشترى خلال تجواله هذا، خنجراً عربياً أهداه إلى صديقه إنجلز. وزار ذات مرَّة الأسطول الروسي القيصري الذي كان راسياً في مرفأ الجزائر. إلا أنّه لم يقم علاقة مع الجزائريين، ولم يظهر أي تعاطف معهم أو مع قضيتهم، كما لم يتعرّض إلى ثقافتهم وتاريخهم، مثلما تؤكِّد كتاباته ومراسلاته التي كان يوقعّها أحياناً بلقب المغربي، أو المغربي العجوز، وهو ماركس نفسه، الذي فارق الحياة في ‬14 مارس سنة ‬1883، ودفن مع زوجته، في مقبرة «هايغات» في لندن، حيث كانت زوجته سبقته إليها قبل عامين.