تتميز الفنون الشرقيّة عموماً، والإسلاميّة خصوصاً، بارتباطها الوثيق بالحياة اليوميّة، فهي وُجدت في الأساس، لخدمة مرفق من مرافقها. أي أنها استعمالية السمة. ولها هدف ووظيفة وغاية استخداميّة اجتماعيّة، أو دينيّة، أو ماديّة تتعلق بالأكل والشرب والتجميل والتزيين وحفظ المواد والجواهر وتجميل العمارة، وغير ذلك من متطلبات حياة الإنسان اليوميّة الماديّة.
لم يشهد الشرق فناً للفن، وإنما الفن لديه دائماً هو في مهمة، بدأت ماديّة استخداميّة صرفة، ثم تصعّدت بفضل التزويق والتزيين والتحسين الشكلي، لتجمع بكثير من التوافق والانسجام، بين مهمة تلبية حاجات الجسد، ومهمة تلبية حاجات الروح!! ويُعتبر الفن الإسلامي آخر مولود في الفنون القديمة.
وقد استفاد في البداية، من الفنون القديمة الموجودة في البلاد التي انتشر فيها، كالرومانيّة والإغريقيّة والبيزنطيّة والساسانيّة والهنديّة، ثم ما لبث أن هضم جميع هذه الفنون، ليعيدها في منتوج جديد هو (الفن الإسلامي) الذي وحدته العقيدة الإسلاميّة، ومنحته خصيصة تفرد بها عن غيره، بحيث صار من الصعوبة بمكان، الاهتداء فيه، بعد قرن من ولادته، إلى ملامح من هذه الفنون، ذلك لأنها تحوّلت لتصبح إسلاميّة صرفة. وهذا الأمر مرده ك.
ما يقول (دافيد تايلوت رايس) في كتابه (الفن الإسلامي)، تفرد الفن الإسلامي باحتوائه على ذخيرة كاملة من التصاميم والنظام الهندسي المتميز، ارتبطت بفكره وعقيدته، وفي مرحلة مبكرة من حقبة الهجرة. والفن الإسلامي يتميز في هذه الناحية تماماً عن الفن المسيحي الذي فيه التنوع وليس التماثل، كما في الفن الإسلامي. فالفنون في مراحل المسيحيّة المختلفة:البيزنطيّة- الشارلمانيّة- الرومانيسك- القوطيّة- عصر النهضة، كانت مختلفة كلياً.
وكان هناك اختلاف كبير بين المناطق. لقد كان التنوع هو بالتأكيد جوهر الفن. ولكن في العالم الإسلامي، كان هناك تماثل أكبر بكثير، في ما يتعلق بكلا الزمان والمكان. فأولاً: لم يسعَ الفنانون المسلمون وراء ما هو جديد وغير مألوف بالطريقة التي اتبعها فنانو عصر النهضة، ولكنهم بدلاً من ذلك بقوا مرتبطين بالنموذج الذي أقر وبرهن الزمن والعرف جدارته، ساعين إلى تجديد قدرته على إثارة الإعجاب، لإعادة الشباب إلى شخصيته، بوساطة التغييرات الماهرة في التفاصيل.
وثانياً: فإن تبني خط معين، استخدم أيضاً كشكل أساسي في أشكال الزخرفة في الفن، في منطقة امتدت من الهند إلى أسبانيا. كان له تأثير موحد، على نحو هائل. وبسبب هذه العوامل، يبدو الفن الإسلامي للعين الغربيّة للوهلة الأولى، ذا درجة معينة من الرتابة. إذ يتبين أنه من الصعب تحديد المنطقة الخاصة بمنتجاته، ومن الأكثر صعوبة تحديد تواريخها.
انتخاب وترسيخ
وهذا ما ذهب إليه (جورج مارسيه) في كتابه (الفن الإسلامي)، وذلك عندما أكد أن هذا الفن جني من تراث الفنون التي سبقته (لاسيما في آسيا الغربية التي شهدت ازدهار أكثر الحضارات أهمية)، ولكنه اختار منه ما شاء، وتمثل ما احتفظ به من عناصر، ثم أعطى هذه العناصر طابعه الخاص. وأعطاها وجهاً جديداً لا يمكن به التعرف على أصوله. وقد كفى هذا الفن أن يمر مائة عام من الزمان لكي يترسخ في أعمال لم يعد بالإمكان نسبتها إلى الفنون القديمة التي أغنته.
وعلى مر القرون كان يبتعد أكثر فأكثر عن المؤثرات التي أحاطت بمقدمه إلى العالم. ففي القرن التاسع، كان يمكن بسهولة اعتبار تاج عمود في مسجد بدمشق أو القاهرة، بلطف سلته، وأوراق الأكنتوس التي تغلفه، مستوحى من الطراز الكلاسيكي الكورنثي. وفي القرن الحادي عشر، يصبح تحديد هوية الأصل نوعاً ما أكثر صعوبة. وأما في القرن الثالث عشر والرابع عشر، فكان لا بد لإثبات الأصول القديمة لنموذج التاج الذي نصادفه في غرناطة أو فاس، من قدر أكبر من العزم أو الجهد التحليلي!
خصائص ومقومات
يتفرد الفن الإسلامي بجملة من المقومات والخصائص الشكليّة الزخرفيّة الجماليّة، لعل أبرزها وأهمها، استخدام الفنان المسلم، الخط العربي، بطرزه وأجناسه المختلفة، كعنصر تزييني ودلالي أساس، في غالبية ضروبه وأنواعه المنفذة من مواد عديدة كالحجر والرخام والمعادن والنسيج والخزف والزجاج والخشب والعاج والفسيفساء والرقش (الأرابيسك) ... الخ. إذ تكاد لا تخلو قطعة فنيّة إسلاميّة من وجود الخط والزخارف الهندسيّة والنباتيّة فيها.
بما في ذلك العمارة من الخارج (العمارة الخارجيّة) ومن الداخل (العمارة الداخليّة). على أن اللافت للانتباه، إبداعات الفنان المسلم في مجال الهدايا المقدمة لعليّة القوم، والمنوط بها، مهام ووظائف مختلفة، بحيث تحوّل بعضها إلى كنزٍ ثمينٍ في قيمته الفنيّة والماديّة، أو تحفة لاتُقدر بثمن.
تنوع في الشكل والوظيفة
غطت المشغولات الرفيعة في فنها وصنعتها، المدرجة في خانة التحف، والتي أبدعها فنانون وحرفيون مسلمون، في مراحل تاريخيّة مختلفة، كافة مرافق الحياة واحتياجاتها. من ذلك: لوحات الخط العربي، أدوات العلم والتعلم، العمارة والزخرفة، العلب المعدنية المتعددة المهام، الخزفيات، الزجاجيات، المنسوجات، المجوهرات، الهدايا المنفذة من مواد نفيسة كالعاج، والذهب، والفضة. والملاحظ أن الهدايا ـ الكنوز، موزعة اليوم، في أشهر المتاحف والصالات العالميّة.
وهي تحرص عليها حرصاً شديداً، لأنها تُشكّل عوامل جذب سياحي للبلاد المتواجدة فيها، عدا عن كونها تُشكّل أيضاً رصيداً مالياً يتنامى يوماً بعد يوم، وبإمكان البلاد التي تملكه، صرفه عند الحاجة، فهو مطلوب ومرغوب، وبإمكانه أن يسد نقصاً كبيراً في ميزانياتها، إضافة إلى القيمة الفنيّة والمادية الكبيرة، التي تجسدها الهدايا ـ الكنوز، فهي قيمة تاريخيّة أيضاً، لأنها توثق لأشخاص وأحداث وعادات وتقاليد وأفكار، وأيضا معتقدات العصر الذي ظهرت فيه، والمكان الذي جاءت منه.
أمثلة ونماذج
إن الأمثلة على الهدايا ـ الكنوز التي خرجت من بلاد المسلمين إلى أنحاء العالم كافة، أكثر من أن تُعد وتُحصى، لذلك ما سنقدمه هنا ليس أكثر من أمثلة ونماذج، سنحاول قراءتها كقيمة فنيّة جماليّة، وكقيمة دلاليّة تأريخيّة، والقيمتان متكاملتان ومتوافقتان فيها.
؟ دفتا باب: الدفتان مصنوعتان من خشب جبال الأطلس في المغرب، وهما يشكلان عملاً فنياً لا مثيل له في أي مكان آخر من العالم الإسلامي. وهذا العمل يتألف من 48 رأس
لنجم يشع من المركز، مُولداً هندسية نصف قطريّة مُركّبة، أما الحافة فتتألف من رويحات كبيرة وصغيرة. وتبلغ مساحة العمل 2 متر مربع، وهو يعود للقرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي.
؟ محراب: وهو عمل إيراني مدهش يعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي، ومنفذ من القيشاني الخزفي المزجج، ويبلغ ارتفاعه 171 سم وعرضه 161 سم، ويحمل سورة الضحى بأكملها، وسورة الأنعام، وهو ذو تصميم هندسي على أرضيّة سوداء من مسدسات بيضاء متواشجة غير منتظمة الشكل، متناسجة مع نظامين من زخارف عربية زهريّة، أحدهما لونه بني والآخر فيروزي مع أزهار بيض وخضر، ويوجد على الحدود الزرقاء الداكنة كتابة رائعة بيضاء بخط الثلث، على كرم درجي فيروزي مع أزهار بنيّة صغيرة.
كرة بخور: وهي منفذة من النحاس الأصفر المطعم بالفضة، وهي إما إيرانيّة أو أفغانيّة، وتعود للعام 1200م. كما تحمل على الطوق الدائري عبارات: (العز والرخاء والثروة والسلامة والسكينة والطمأنينة والرضا والامتنان والسعادة والرفاهية والصحة).
وكتب على الأطواق المؤلفة للنجمة الخماسية العبارات: (العز والرخاء والثروة والطمأنينة والعز والرخاء والسلامة والامتنان والسكينة والرحمة والطمأنينة والرفاه والجلد والنجاح والرحمة والسكينة والرضا والامتنان والجلد والصحة واللطف والسكينة والسلامة). كما يحمل العمل علامات البروج ضمن شكل مخمّس، وقد تكون محجرة البخور الكروية الوحيدة المعروفة في العالم الإسلامي الشرقي.
؟ سلطانيّة: وهي منفذة من النحاس الأصفر المطعم بالفضة، وإما سوريّة أو مصريّة، وتعود إلى منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. وتحمل عبارات: (العز والرخاء الدائم والعمر الطويل لك أيها السيد السامي المتألق مع دوام التوفيق، خالد النبيل). يحمل العمل خصائص فنيّة مملوكيّة.
؟ ابريق: وهو منفذ من خزف مزجج بلون فيروزي على خلفية سوداء. إيراني يعود للعام 1200م. ويحمل العمل تزيينات
مؤلفة من نخيلات كبيرة كثيرة الطبقات حول الجسم، ويضمها
طوقان من شعر مكتوب بخط سلس موصول، وتبدو طيور محلقة في طوق أسود حول الكتف، وتزين أسفل الجسم نخيلات تضمها أوراق الحافة، مزججة بأزرق كوبيلت مع طوق عريض من الكوفي المورق تحتها، وكتابة بخط موصول من تحته.
علبة أسطوانيّة: منفذة من العاج بتصميم محفور ومثقوب، وهي مصريّة تعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وتنتمي لمجموعة صغيرة خارقة للغاية. ويبلغ قطرها 14 سم، وتثقب بدنها شعريّة هندسيّة رائعة، مصنوعة بدقة متناهية، وقد حُفر حول جزئها السفلي كلام منقوش منخفض ومحشو بمادة قيريّة سوداء، على جانب الغطاء وقمته كلام منقوش مماثل، كما أن الغطاء ذاته، تثقبه شعريّة أيضاً حول النجمة المركزيّة.
شمعدان: منفذ من زجاج بلا لون مع تصميمات مينائيّة مذهبة. ويبلغ ارتفاعه 22,6 سم وقطر القاعدة فيه 20 س، وهو سوري يعود للعقد الممتد من 1240 ـ 1250م. ويحمل عبارات: (العز لمولانا الملك العالم العادل الحازم المجاهد المترقب حامي الديار المؤيد بعون الله، القدير الظافر).
وشكل الجسم الأسطواني فيه مسلوب قليلاً، وهو عموما مزين بشبكة هندسيّة مذهبة محاطة بالأحمر، وتحدد نجوماً وثمانيات وسداسيات بالأحمر والأزرق والأخضر، وتحتوي الوحدات الأكبر على عنصر مذهب، وفي الأسفل طوق مكتوب بالخط الثلث بالذهب على أرضية حمراء.
علبة مستطيلة: منفذة من خشب مطعم بتركيبات برونزيّة مذهبة، وهي أندلسية تعود للقرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي طولها 37,8 سم وعرضها 13,3سم.
والعلبة مصنوعة من خشب مع تلبيس بأخشاب مختلفة الألوان وعاج بسيط مُرقط. وزودت فيها الجوانب والغطاء بسلسلة نجوم ثمانيّة متواشجة تضم أنجماً وثمانيات أصغر. وصنعت التركيبات الموجودة فيها من برونز مذهب مع تفاصيل
محفورة. وكان ظهر هذا الأسلوب من الزخرفة في أواخر عهود العرب في أسبانيا، وربما في غرناطة.
؟ لوحتان مكشوفتان: منفذتان من الفولاذ في إيران، تعودان إلى العام 1576م. وقد جاءتا من جامع في شيراز بناه شاه طهمسب، ثاني ملوك الصوفيين في إيران. وقد بلغ الفولاذ، وهو مادة الأسلحة والدروع عامة، ذروة الإتقان الزخرفي في العصر الصفوي، في القرنين السادس والسابع عشر الميلادي.